ملحوظة :
Accidental Puncture
تعبير اجنبى شائع بين الاطباء و يعنى الوخز بالابر عن طريق الخطأ…
- هذه القصة خيالية لكن اجوائها ليست كذلك..بل هى جزء من واقع مؤلم يحياه كل طبيب فى مصر و آمل فى يوم ما ان يتغير……
*********************
انظر الى يدى المغطاة بالدم فأجد شقاً طولياً فى قفاز اللاتكس موضع اصبعى...لا اذكر متى تكون و لا كيف...اهم بتغييره و قد اصابنى الجزع ,فيصرخ فىّ النائب فأنسى كل شىء.....
************
يلح على هذا المشهد منذ مدة...فقط لو اذكر متى كان ذلك...ام تراه حلم؟؟؟؟
**************
يبدأ اليوم بدايته الرتيبه المملة هى ذاتها دون تغيير..حتى احسب نفسى كثيراً ما اعيش اليوم ذاته مرات و مرات..فلا يثنينى عن فكرتى هذه سوى تعاقب الايام على تقويم الحائط..حياة مملة تلك التى اعيش..احداث تتكرر بالحذافير كفيلم على خلفية من الليل و النهار..لكن هكذا سيخبرك كل طبيب اسنان فى مصر فى الواقع..فلماذا اتذمر انا؟؟
فى الصباح استيقظ وحدى ليصدمنى مظهر بيتى الواسع الخالى من البشر بعد وفاة والداى - رحمهما الله-,اتناول لقيمات بسيطة على سبيل الفطور من بقايا عشاء البارحة,متكلا على وجبه الغداء التى فى الغالب ستكون بدورها من بقايا غداء البارحة ان لم تكن فى الخارج كغالبية الاحيان عندما لا يسعفنى الوقت بالعوده الى المنزل فى منتصف اليوم..لا مفر..انه الروتين الكئيب لحياة كل العزاب..لكن كل هذا سيتغير قريبا عندما تأتى عروسى الجميلة لتؤنس وحدتى فى هذه الصحراء و تحيلها الى واحة على قدر جمالها...
(دعاء)..ما اجملك..فقط ذكرى وجهك الجميل هى ما يدفعنى ان اواصل يومى دون كلل..هو الحافز المحرك لى فى كل ما افعل..
بعد تناول الافطار يكون النزول فاستقلال السيارة القديمة التى انوى تغيرها فى اقرب فرصة..مازلت متعلقا بها لأنها آخر ما ترك لى والدى رحمه الله..لكن هذا لا يمنع ان ايامها قد صارت معدوده..لن ينقذها مزيد من الميكانيكا و محاولات الاصلاح الفاشلة...
كالعادة الطرق مزدحمة رغم ان الوقت ما يزال باكراً و الصبح فى اول ساعاته النهارية..الطريق الى المستشفى الحكومى الذى امارس فيه عملى الصباحى احفظه عن ظهر قلب و يمكننى ان اصل اليه معصوب العينين..قضيت هناك سنين طويلة من حياتى..سنة الامتياز و عامى التكليف وبضع اعوام مارست فيها وظيفتى الحالية بإيعاز من وزارة الصحة..لهذا صلتى بالمكان وطيده و طريقه الىَّ كطريق مؤدي الى منزلي..
لكن رغم كل تلك الاعوام التى قضيتها فى المستشفى و تعلقى الروحى الوثيق بها ما زلت اجد صعوبه فى التأقلم على كل المشاكل الموجودة هناك..احقاقاً للحق اقر انها ليست مقصورة على هذا المكان وحده, انما على سائر المستشفيات الحكومية..بل لا اكذب ان قلت ان مستشفاى هو واحد من افضلها و ابرزها..لكنها مشكلة طب الاسنان الازلية..الحاجة الى خامات متطورة و باهظة الثمن تجعل سوء اى مكان يفتضح سريعا ان لم يعتنى بنفسه جيداً...
ابداً لن اعتاد مظهر المرضى التعساء بائسى المظهر المتصارعين على شباك التذاكر كى يدفعوا القروش القليلة التى تكفل لهم حقهم المشروع فى العلاج و الدواء..مظهر يصعب تفريقه عن احتشاد للمواطنين امام فرن العيش..انتهاك واضح لحقوق انسان فقد انسانيته منذ امد بعيد..سباب و نعوت مهينة..و اشتباكات تصل لحد تطاول الايدى فى كثير من الاحايين..
اتجاوز كل هذا يومياً محاذرا ان الج طرفاً فى واحد من هذه المشاحنات , إلى داخل المستشفى فأصعد درجها المتهالك حتى اصل الى القسم الخاص بالاسنان..احاول ان انسى انه لا يفصله عن قسم النساء و التوليد سوى حائط رفيع لا يمنع عنا صرخات النساء الواضعات الواهنات طيلة اليوم..صارت موسيقى معتاده و خلفية افكار لى و انا اقرأ الجريدة كل يوم..
على الاقل هى تمنع عنى هراء ربات البيوت المعتاد من كبار الطبيبات هنا..فى كثيير من الاحايين اكون انا الطبيب الشاب الذكر الوحيد المتواجد..فيكون على لساعات النهار الطويلة ان اتخير ما بين الوحدة او مخالطة هاته النسوة المسنات , فأختار العزلة قطعا غير نادم...اسوأ مجموعه من النساء فوق السن..كن طبيبات منذ اكثر من عشرين عاما..كل هذا قبل ان يتزوجن و يصرن (مادامات) ثم (امهات)..هنا تنقطع الصلة بالطب و تبدأ الصلة بال( المحشى- و الرقاق-وعجز الازواج-و الفضائح-النميمة- و الى ما ذلك..)..عمالة زائدة و اجور تصرفها الحكومة هباءاً هذا ما يصرن عليه..هذا سيرك اكيد..لا انصحك بقطع تذكرة و المخاطرة بمشاهدته..ما لم تكن رائق المزاج راغبا فى التسلية..قد يمنحنك القليل منها...
قد يقاطعنى و انا اقرأ الجريدة واحدة من صغار طبيبات الامتياز طالبة المشورة فى وضع تظنه كارثياً لكنى قطعاً اعرف انه تافه و لا يستحق اقلاق راحتى و حرمانى من صفحة الرياضة و اخبار موسم الانتقالات الصيفى..هى تقلب بصرها بينى و بين الحيزبونات فترجح كفتى فى العلم..ربما اذا شق عليها صنع الملوخية فستأتى اليهن فى طلب المشورة..لا عليك يا فتاه..اعرف ما تريدين تماماً..اعرف كل ما يمرق فى رأسك لأنه كان فى رأسى انا منذ فترة ليست بالطويلة..و هو فى رؤوسكم جميعاً لكن كل واحد يعتقد انه مميز ليس كسواه ممن سبقوه..كل فتى يعتقد انه سيصير افضل طبيب فى العالم..سيطبق كل ما تعلم فى الكتب على ارض الواقع..سيصير واحدا من الاطباء العظام الذين قرأ عنهم كثيراً..اما انتِ؟؟ فأنت لا يشغل بالك سوى ابن الحلال..اين سيكون و متى سيأتى و كيف تستعدين له..يوماً ما ستصيرين واحدة من هاته المسنات اللاتى لم تقنعى برأيهن و فضلتى عليه مشورتى...
سآتى معك و ستخبرينى ان المريض يتألم...انظر اليه...فأعلم انه مدع..كيف؟؟ لا تسألى..هذه الاعين تحولت الى جهاز فائق الجودة يكشف الكذب و اصطناع الناس..اذنى تستطيع تمييز جميع طبقات الالم الصادق منه و المدع و المبالغ..هذا العجوز يلهو بكى يا فتاه..لمح ضعف خبرتك و قله حيلتك و نقص علمك , فأراد ان يعابثكى قليلا..المحقن لا يؤلمه..انه يدعى كما قلت..هه..انظرى..انا اخلع الضرس و هو لا يشعر بشىء..يتألم؟؟ و ماذا فى ذلك؟؟ و هل يوجد فى الحياة شىء سهل؟؟ انا كذلك اتألم و انا اخلع له ضرسه دون مقابل..فهل راعى هو ذلك..هاهو الضرس يا فتاه..تقولين انى رائع...لا عليك يوما ما ستصيرين اروع و افضل..فقط اعطى نفسك الفرصة..هذا طبعاً اذا لم يمتصك عالم (المحشى) كما قلنا.....
اعود الى مقعدى الخشبى وسط صراخ النساء و شكوى المرضى من سوء المعامله كأنهم فى مستشفى استثمارى..( دورنا هييجى امتى؟؟؟ ايه المعاملة الهباب دى؟؟ مش الطب مهنة انسانية؟؟ و الله ده حته مكان (..........)..)
لماذا تتذمرون يا ساده؟؟ اذا لم ترق لكم الخدمة هنا فأبحثوا عنها فى عيادات اساطين الاطباء و اتركوا خدماتنا المجانية الحقيرة...ام تراكم تحتقرونها لأنها مجانية؟؟.الطب مهنة انسانية..و لكن نحن...السنا بشراً؟؟..تطلبون مننا الخدمات بأقل الاسعار و تطالبوننا ان نبتسم و نسعد و نحن نتقاضى الملاليم..تذمروا كيفما شئتم..( اخبطوا دماغكم فى اتخن حيط)...هذا افضل ما عندنا...
انصرف ذهنى عن كل هذا الصوت المتنافس فى علوه لأعود الى عالم الجريده الساحر البعيد عن كل هذا الصياح...اين سيذهب( المحمدى)؟؟..تصفيات كاس العالم؟؟ ( ابقى قابلنى..)...
لا افيق من عالمى الخاص الى عندما التفت حولى فأجد كل شىء قد هدأ و كأن الصمم قد اصاب اذنى..الحيزبونات قد غادرن..هذا ايذاناً لى بأن افعل المثل...فقط ذكرنى ان اوقع امضاء الانصراف حتى لا تحرمنى الحكومة من ال15 جنيهاً وهبة اليوم..لماذا لا تقوم يا ابى من رقادك؟؟ لماذا لا تستيقظى يا امى من سبات الموتى لترى ماذا كان اثر دعواتك لأبنك بالنجاح...الطبيب المرموق التى قدرت الدولة جهوده و سنين تعليمه و قيمتها بخمسة عشر جنيهاً يومياً...وضعت له ثمن ابخس من السباك و الكناس و غطاس المجارى...ناما و اهنئا..لقد بلغ ابنكما اعلى المراتب كما كنتم تحلمون...
و الآن..العودة الى المنزل و الغداء...يبدو خيارا مستحيلاً..طعام جاهز اذاً..قليل من تلك الشطائر الصاروخية التى تحوى على طعام مقلى بزيت استخدم فى الطهى مئتى مرة..لكن ما باليد حيلة..هى مشبعه و شهية و هذا هو المطلوب..
لو سار اليوم كما سار سابقيه..
فسأذهب الى العيادة الصغيرة التى اشتريتها بالارث القليل الذى تركه لى والداى رحمهم الله..عيادة متواضعه جداً..لا تصمد فى مقارنه مع واحد من العيادات المتوسطة التى يفتحهها الاطباء الشبان فى كل مكان..لكن طب الاسنان كما قلت يلقى عاهل النجاح فيه على الامكانات و الخامات..و كلها باهظة الثمن..و هذه امكاناتى و انا قنوع بها..
سأذهب هنالك كالعادة فى هذا الحى الشعبى المزدحم لأجد لسيارتى موطئا للركون بعد عناء و محايلات..ربما اتركها فى صف ثان مواز للرصيف و على راكن الصف الاول اللجوء لصاحب الامر..
اصعد لأجد عم (رزق) الممرض العجوز و قد اعد لى كل شىء..نشيط جداً رغم سنوات عمره المتقدمه..نعم...لا تجعل وجهه الاسود المتغضن و نظراته الواهنه تخدعك..فهو نشيط نشاط لا امتلكه انا و عمرى كأولاده و اصغر..يعمل كممرض و كساعى و كمساعد و كل هذا بأقل اجر و دون كثير الكلام..التفاهم بينى و بينه ممتاز دون قول..يفهم و يعرف ما اريد قبل ان يخطر لى ان افكر به..
سأجده طبعاً و قد اعد لى ادواتى كاملة و فى ترتيبها المضبوط حسب حاجتى اليها ووفقا لترتيب المرضى فى هذا اليوم..ماذا افعل دون هذا الرجل؟؟ سأضيع حتماً..
لا تأبه الى جدران العياده بادية القدم فهكذا اشتريتها من مالكها و لم اجد البال الرائق لأعادة تزيينها..لا تحتقر هذا المكان الصغير من فضلك فهنا يوجد كل شىء انا احتاج اليه..الكرسى الهيدروليكى الذى هو اثمن مقتنياتى فى هذه العيادة المتواضعه..كم هو مريح..يروق لى كثيراً ان استكين فيه بعد ان ينصرف آخر مريض من هنا و يتحول رأسى الى خلية يطن فيها النحل..فتهدأ اعصابى و ربما انام..كذلك جهاز التكيف القديم الذى يتصدر الحائط قبالتى..صوته عال..لكن من اعتاد صراخ الحوامل كل يوم يسهل عليه اعتياد ايه اصوات..يمكن للمكان هنا ان يتحول الى جحيم خانق فى اشهر الصيف..لولا هذا الاختراع الذى - مثله مثل عيادتى - تنظر اليه انت باستخفاف لأنصهرت انا و مرضاى فى غرفه الكشف و العلاج الخانقة...
سأجلس منتظراً لفترة متوقعاً فى اى لحظة ان يجيىء الفرج..مثلى مثل سائق التاكسى..قد يحوم طيلة اليوم بحثا عن زبون لا يجىء..او كالحلاق ان شئت..مقامرة هى..لكن الارزاق على الله..و الا لجلس اصحاب المهن سالف ذكرها فى بيوتهم بانتظار ان تمطر السماء ذهباً و فضة..
سأنتظر لكن الانتظار لن يطول لحسن حظى الملول..لو طال فلربما تتساقط اجفانى بفعل جهد اليوم الطويل..ربما سقطت رأسى على صدرى و انا اتمتم بوصفات الطعام الغريبة التى اسمعها من رفيقات العمل المسنات..لكن هذا لا يحدث حمداً لله..
عم (رزق) يدخل المريض الاول..شاب صغير و خطيبته...ربما صديقته..كيف عرفت؟؟ ياله من سؤال...وظيفتى هى مهنه مخالطة الناس..لا تسأل اسئله كهذه و تهيننى..لو كانت اخته لما انتهز ايه فرصه ليلمسها كل دقيقة دون داع..لو كانت زوجته لما كلف نفسه ان يأتى معها من الاساس..ثم هذا الادعاء فى كل شىء..القلق غير المبرر..الميوعه طرفها و التظاهر بالرجوله طرفه..جو عام اكره كثيراً لكنى مكلف بأحتماله..طالما يدفعون فالزبون دائماً على حق..سأعطيها المحقن فتبكى و تولول بينما يسأل هو (هو لازم؟؟ هى بتوجع..ما تبراحه يا ابو الدكاترة..)..(طب ما تيجى تديها انت يا روح امك) هذا انا فى سرى طبعاً..
طبعاً خلال فترة العمل القصيرة الغير مؤلمة بالمرة تصرخ هى مرة كل عشر ثوان فى فزع و الم و تجبرنى على التوقف صاغراً..بينما هو يستغل الفرصة و يربت على كتفها و يبتسم فى تشجيع...جو مبتذل مبالغ فى رخصه...لكن ( اكل العيش)...ما باليد حيلة....و عندما ينتهى كل شىء تأتى لحظة الحساب ( حشو فضى ب50 جنييه)..لينسى الفتى التصنع امام فتاته و يصرخ (50 جنييييه ليييييييييه؟؟ دى سرقة..) -اذكر مرة واحد هددنى بالشكوى فى النقابة- ثم..ثم تأتى لحظات المساومة الرخيصة( ما تهزهم شوية خليهم 20..وحبه عليك و حبه علينا...)..( اهزهم؟؟) هكذا اجدنى فى لحظات اتحول من طبيب محترم الى بائع طماطم فى سوق العبور..
يالها من لحظات اشعر فيها باستحقار عام لكل شىء..شهادتى..و علمى..و كل هذا ليقايضنى جاهل مثله يبغ الاستعراض امام فتاته كم هو ( ناصح و مفتح و ما يضحكش عليه و هيطلع عين ام الدكتور النصاب و مش هيديله اكتر من حقه..)
سينصرفا بعد ان يتسببا فى ارتفاع ضغط دمى ليدخل بعدهما عجوز مسن..ساخط على كل شىء..متشكك فى كل شىء..لا يثق بأى شىء اقول..
(علاج عصب..لأ اخلع..متحرك.. لأ ثابت..دى تتخلع..لأ عصب..عصب ازاى يا حج دى بتتلخلخ؟؟ اهو زى ما بقولك..)..هذه المرة انت لست بائعاً للطماطم..انت ترزى..انت اداه فى يد عجوز متشكك قرأ بضع كلام عن الطب فى ركن المشاكل الجنسية فى مجلة (طبيبك الخاص) و سمع عن بعض الوصفات من اصدقاءه على القهوة و اقاربه المتعطلين فأعتقد انه اعلم منك و انك مجرد حمار يتحدث الانجليزية و اللاتينية معه شهادة تثبت ذلك...مرة اخرى الزبون على حق..لا تجادل من فاق عمره سناً معينة..نفذ ما تريد و اقنعه انه ما يريد..كيف؟؟ هذا سر المهنة و لو علمته انت لأفتتحت عياده فى الشقة المجاورة و نافستنى..سيفاصل هو الآخر فهذا داء مستوطن فى كل المصريين..اغنياء و فقراء..فقريبه فلان صنع له الطبيب علان تركيبه ( زى الفل)..دامت قروناً مديدة حتى استخلصوها من جثته بسعر اقل..فلم تتقاض انت سعراً اعلى؟؟ يا اخى مادام هو بهذه الجودة لم لا تذهب اليه و تريحنى ؟؟ سينصرف غير راض على شىء مهما فعلت..فقط ادع الله ان لا يريك وجهه ثانيه و الا يتصل بك ليخبرك ان التركيبة تضايقه لأنه على حد قوله (حاسس ان فيه حاجة غريبة فى بقى)..و متى قلت لك انى اخلق كخلق الله؟؟ لا اعلم.....
سأخذ مالى المستحق و سأعطى عم (رزق) ماله و انصرف الى بيتى بعقل نصف نائم لأتناول لقيمات العشاء (التى هى باقى افطار الصباح الذى هو باقى عشاء البارحه) هذا طبعا اذا كان مازال خاليا من العفن..ربما اشاهد فيلما او احادث خطيبتى التى قلما اراها او اسمع منها فى خضم احداث اليوم..ما لم يسبقنى النعاس و انا فى منتصف الفيلم فأنسى كل شىء عنها و اتحمل غضبها فى رسالة قاسية/رقيقة/مضحكة..اقرأها اليوم التالى..و غداً يوم آخر من دوران الثور معصوب العينين فى ذات الدائرة........
لكنى اليوم لن اذهب للعيادة..كلا هذه ليست ثورة على الاوضاع فلست انا ممن يثورون..حتى لو ثارت البلاد كلها كما حدث فأنا ساظل على حالى..لكنه ميعاد استلام صورة تحليل الدم التى اجريتها منذ وقت قصير..و السبب؟؟ شر لا مفر منه لأنهاء اجراءات السفر الى الاراضى السعودية المقدسة...سفر؟؟
انت تكثر من الاسئلة..نعم سفر..حسبتنى قلت لك انى سأتزوج قريباً...لهذا اطمع مثل سواى فى تحسين سبل دخلى ,و كل هذا تجسد فى صورة عقد متميز كفله لى احد اصدقائى القدامى للعمل فى احد المستوصفات فى السعودية..الاجر ممتاز و العقد مواصفاته لا تقاوم..السكن هناك مجانا للاطباء و لزوجاتهم مما يعنى مالا أكثر للادخار..ساغلق عيادتى الصغيرة لفترة و سأترك كل شىء فيها كما هو..حتى عم (رزق) , فأنا عائد حتماً فى يوم..فقط ساغيب عاماً او اثنين اجمع المال فيهما و اعود انساناً آخر يرفل فى النعيم و يبعثر المال فى كل مكان, فأوسع عيادتى و اصير طبيباً مرموقاً..هذا هو الحلم..هكذا يفعل الجميع فلماذا سأصير انا استثناءاً؟؟ و ظيفتى الحكومية سأقدم عنها اجازة دون راتب لأعود فأجد كل شىء كديدن الحكومة ما يزال كما كان..
(دعاء) تدعمنى فى موضوع السفر هذا دون شروط كما دعمتنى فى كل قراراتى السابقة..لا اتخيل حياتى بدونها و لو لثانيه هذا الملاك الجميل..لا يحول بينى و بين السفر الآن سوى عقد زواجنا و بضع اوراق رسمية لإرضاء غرور الكاتب المصرى البيروقراطى مثل ورقة التحاليل هذه لضمان خلو جسدى من اى خلل....
دخلت الى المبنى الفخم لمعمل التحاليل متعجلاً الحصول على نتائجى فـ (دعاء) تنتظرنى فى احد المقاهى النيليلة لألقاها كعلامة اخرى عن كسر روتين اليوم..ادخل اسأل عن نتائجى فيطلب منى الانتظار..دقائق و ينادى الموظف الكفء اسمى..نتائجى من فضلك..ينظر الى فى وجل..(متهيألى هتحتاج تشوف الدكتور..)..لماذا يا بنى؟؟ لماذا ستصيبنى بالقلق..انا طبيب عن نفسى و استطيع قراءة الانجليزية فلا داع..ربما لست بعلم اطبائكم الغزير لكنى لدى خلفية بسيطة عن الطب..افض الاوراق فى سرعة..كريات الدم..الصفائح اقل من المعتاد..هراء هراء..لا يهم..
| Positive | HCV AntiBody |
| Positive | Hepatitis C PCR |
و ماذا فى ذلك؟؟ دعنا نكمل...
لكن ماذا؟؟؟
فيروس سى؟؟ التهاب كبدى؟؟
لا بد انك تمزح يا بنى..هذه ليست نتائجى..حدث خلط فى العينات..نعم الاسم اسمى..لكن معملكم العظيم ارتكب خطأ شنيعاً..هذا ليس دمى او ان اجهزة فحصكم مصابة بالخرف..هذه الاشياء لا تحدث لى انا اتفهم؟؟.نعم ساصرخ لا اهتم لسمعه هذا المكان الدنس..دعنى اصرخ فيعلم الجميع اى مباءة تديرون هنا..تعبثون بمشاعر الناس و تتلاعبون بنتائجهم و اعصابهم..اين المسؤل هنا؟؟
الموظف يحاول تهدئتى بينما تحولت انا الى ثور هائج لا قدرة لديه و لا منطق و لا قابلية للتفاهم..رجل وقور يرتدى المعطف الطبى المميز للاطباء...
" اهدى يا استاذ..”
لست استاذاً يا اخى انا طبيب مثلك..اهكذا تكافئون اصحاب المهنة الواحدة من زملاء المعطف الابيض؟؟.صبراً حتى افضح جهلكم فى كل مكان....
" اتفضل اقعد..و بعد اذنك تهدى شوية ...ورينى التحاليل بتاعة حضرتك..ايه المشكلة؟؟"
اهدأ؟؟ كيف؟؟ بعد ما رأيت..انتم تمارسون لعبه حقيرة هنا..لكنى لست سهل الخداع..سأريكم...
"التحاليل تظهر اصابة بفيروس الالتهاب الكبدى سى.." ثم يرفع نظره عن الاوراق و بنظرة محايده خالية من الود " بجد انا آسف لده..بس دى الحقيقة.."
انت لست آسفاً على شىء..اعلم هذه النظرات الباردة فقد حدجت بها المرضى مراراً فلا ترمقنى بها الآن ,و تضعنى امام المدفع بعد ان كنت خلفه..لا اصدق حرفاً مما قلت فأنت كاذب..كاذب..كاذب...
" يا دكتور انا مقدر موقفك..بس من فضلك تهدى..احب ااكدلك ان مفيش لبس فى التحاليل..النتايج سليمة 100% و مفيهاش اى مجال للخطأ..." ثم نفس النظرة التى اكرهها " انا فعلا آسف.."
اشعر ان جسدى يتهاوى منى لأسقط على المقعد معدوم الحركة بعد
ان فرغت من انفعالى و فرغ جسدى من هرمون التوتر و تركنى معدوم الحيلة كطفل..اشعر بالخدر يسرى فى كل اطرافى و انا اسمع صوته يأتى من بعيد..كانه يتحدث من بئر عميق ملىء بالماء..كلامه يجد طريقه الى عقلى بطريق ما بعد ان هدأ توتره و استعاد شىء من صفاء تفكيره..لا يعقل..لا يمكن..هل...هل هذا صحيح؟؟ هل انتهيت كطبيب؟؟ هل انتهيت كأنسان؟؟ هل سأموت؟؟ هل سأحيا لأتعذب ما بقى لى من عمر؟؟ كم تبقى اصلاً و كيف سأعيش تلك الايام؟؟ الجميع يتجنبنى خاشياً العدوى بينما اتألم وحدى فى صمت؟؟ و عملى و سفرى؟؟و زواجى؟؟
(دعاء)........
كل هذا و هو ما يزال يتحدث بلهجة تقريريه كأنه يذيع اخبار الطقس فى نشرة المساء...
" حضرتك طبعاً دكتور و عارف..سهل جداً فى مهنتك دى تتنقلك العدوى لأقل هفوة..الحذر لا يمنع القدر و دى اراده الله..حاليا النسبة فى دمك مش موضحه المرض فى انهى مرحلى بالضبط..لازم تحاليل و فحوصات اكتر..هنحتاج نحلل وظائف و انزيمات الكبد..ممكن هنحتاج عينة من الكبد نفسه عشان فحوصات الميكروسكوب الالكترونى ..دى هتبين لنا اذا كان فيه تليف او لا قدر الله اى مشاكل تانية ...
انا مش عاوزك تقلق يا دكتور..ربنا دايما بيريد بعباده الخير..بس مش لازم هما يحسو بده فى لحظتها..العلاج اتقدم طبعا زى ما انت عارف..انت لسه مظهرتش عليك اعراض و المرض عندك فى حالة كمون..محتاج تتابع مع دكتور كويس و تعمل الفحوصات اللى قلتلك عليها و ان شاء الله العلاج هيجيب نتيجة...شوية صبر و ايمان يا دكتور...
يا دكتووور..يا دكتوووووور"
لقد ظل ينادى بينما انا قد انصرفت كالمغيب و انا اشعر بصدى كلامه كأنه يحادثنى من بعد آخر دون تمييز حرف...تركت المبنى كله دون ان اشعر بوقع اقدامى و انا متشبث بالورق بشده كأنى احتضن وليدى الذى لم انجبه........
******************
( يتبع )