الجمعة، 1 نوفمبر 2013

الزينى بركات وفن صناعه الطاغيه……1

 

الزيني_بركات_02

الزينى بركات..

طليعه ما كتب المبدع (جمال الغيطانى) من روايات, نُشرت طبعتها الاولى فى اوائل السبعينيات, واكتسبت شهره ساحقه عند تحويلها فى منتصف التسعينات الى عمل درامى يحمل ذات الاسم..

• من هو (بركات بن موسى)؟؟

على عكس المُنتظر من روايه تحمل اسم شخصيتها الاهم, تظل الاجابه على هذا السؤال هى الشاغل الاعظم لسائر شخوصها..كل منها تحركه دوافع متباينه؛ ليكشف جزءاً من ستر الغموض الكثيف الذى يحوط الشخصيه العجيبه..وحده القارىء تتكامل لديه الاجزاء الصغيره الى صوره كبيره مذهله مع اواخر صفحات الروايه..

ومن ابرز ما جاء فى القصه من وصف لظاهر الشخصيه على لسان واحد من رواتها المتعددين

"عيناه خلقتا لتنفذا في ضباب البلاد الشمالية، في ظلامها، عبر صمتها المطبق.لا يرى الوجه والملامح، إنما ينفذ إلى قاع الجمجمة، إلى ضلوع الصدر، يكشف المخبأ من الآمال، حقيقة المشاعر، في ملامحه ذكاء براق، إغماضة عينيه فيها رقة وطيبة تدني الروح منه، في نفس الوقت تبعث الرهبة"

• ظروف ظهور (بركات) فى مصر المملوكيه..

المُحتسب (على ابن ابى الجود) يتآمر عليه كل اتباعه - وابرزهم كبير البصاصين, عينه المُسلطه على العباد-  فيخلد الى نومه آمنا بين جواريه وخدمه, على غير درايه بقوه الحرس السلطانى القادمه لتعزله من منصبه, وتنتقم للناس ظلمه وفحشه..

ويتسائل الخلق..من للحِسبه من بعده؟؟ اظالم آخر ومستبد؟؟

دارت التساؤلات..طُرحت الاحتمالات..لكنها كلها اغفلت الجواب الاصح..

(بركات ابن موسى)..

اسم غريب لا يُعرف عنه شىء سوى انه مثل بين يدى السلطان؛ ليوليه الحسبه, وينعم عليه بلقب الزينى مادام حياً..

ما اشغل عن الغموض هى تلك الاقاويل المنثوره التى اعقبت لقاء..

لقد اعتذر هذا (البركات) عن المنصب...

من يكون ليعتذر عن هبه السلطان؟؟ من يكون ليرفض الجاه فى زمن بيعت فيه المناصب بالدرهم والدينار؟؟

قيل انه بكى فى الحضره السلطانيه, وجثا على ركبتيه متوسلاً ان يُعافى من مهمه يُظلم فيها الناس, وترتفع اكفهم لله فى دعوه غير محجوبه..ما هو الا عبد فقير الى الله غايه ما يريد ان يُترَك لعبادته..

وفى احاديث الناس تمازج الواقع والخيال لينسجا المزيد من خيوط الاسطوره..العين لم تر, لكن الالسنه كلها تناولت سيره الزينى مُجمعه على زهده وتقواه وورعه..

ببطء تحول الغامض المُستَنكر الى بطل..(بركات) (الرجل الامين) القادر على اذاقه الناس العدل بعد ان اعتادوا دهوراً مرار الذل..

حتى طبقه المثقفين التى مثلها الشاب الازهرى الثائر (سعيد الجهينى), لم تسلم من وباء بطوله الزينى..

فهاهو الشاب الذى لم يسع يوماً الا لصالح وطنه وتخليصه من الظلم, يعجب بشخص الزينى ويرى فيه المُخَلِّص, ويلعب دور الوساطه بينه وبين شيخه المحبوب بين الناس (ابو السعود الجارحى) ليكون القوه الضاغطه لقبول هذا التكليف..

يقترب الفتى من الرجل الغامض محط الانظار.. تأسره الشخصيه الممغنطه, وبريق العينين المشع, واللسان الطلق اذ يخطب فى الناس..

"من ذا الذى يرفض للزاهد العارف بالله الشيخ (ابو السعود) امراً؟؟ ليرحم الله (بركات) الضعيف حين يأتيه فرداً والمظالم مُعلَّقه فى عنقه..قبلت ان اكون خادمكم, فاعيوننى ان اقيم العدل بينكم.."

وفرح الناس فرحه عظيمه, وهم يرون بطل المُخيِّله يتجسد الى حقيقه..

• طلوع نجم الزينى..

فى الايام التاليه برز الزينى كنموذج ساطع يحتذى به فى العدل والمساواه..لم يكتف بما تنقله اليه فرقه بصاصيه الخاصه من اخبار, بل اعتاد التنكر والذوبان بين الرعيه, يعلم الظالم فيهم والمظلوم..يحارب الغلاء..السرقه..احتكار المماليك..ينتشل الظالم من قصره او عشه..يجرَّه بين الناس على حمار يركبه عكساً, واللعنات تشيَّعه..حتى يرتدع من انتوى الجنايه على ارزاق الناس..

ومع كل ضربه تصيب مملوك مُقرَّب من السلطان, يتزايد رصيد البطل عند الناس, ويتزايد خوفهم عليه من غضبه لن ينفع حيالها التسلح بحبهم..

(سعيد الجهينى) اصبح من اشد المبشرين بتجميع الاتباع حول هذا (الرجل الجرىء)..

"يجب ان نكون الحيلوله بينه وبين بطش المماليك والسلطان..لن ينصر الله الحق الا على يديه.."

• (زكريا) و(بركات)..

شخص واحد لم يرق له هذا البزوغ المفاجىء وهو (زكريا ابن راضى)..

الشهاب (زكريا) هو اهم رجل فى الدوله..حتى السلاطين تذهب وتجىء وحده كبير البصاصين باقٍ حتى الممات..يترأس جيش من العيون يحصى على الناس انفاسهم, يتلصص على ادق امور حياتهم, ويبذر فيهم الشك حتى فى اقرب اقربائهم.. 

زكريا يكره ان تخفى عليه خافيه..لذا ما ان علم بقدوم هذا الشخص الغريب الى قصر السلطنه يبغى المنصب, حتى اسرع الى سجلاته المفصَّله التى تحمل البيانات الدقيقه لكافه قاطنى مصر, باحثاً عمن يدعى (بركات ابن موسى)..

اتفه فلاح فى السلطنه يوجد تحت اسمه العشرات من الصفحات المُتخمه بالاسرار..فلم لا يوجد تحت هذا الاسم اللغامض سوى اسطر ثلاثه؟؟

حتى هو رغم حصافته كاد ان ينخدع بالفاصل الهزلى الذى اصطنعه هذا (الممثل العاطفى) من رفضه للمنصب وزهده, لولا ان علم من عيون محل ثقه شراء الزينى للمنصب من الامير المملوك (قانى باى الرماح) لقاء ثلاثه آلاف دينار..

حتى بعد ان تولى الحسبه لم يعرب الزينى عن رغبته فى التعاون معه..اهمل الرد على رسائله..انشأ فرقته الخاصه للبصاصه..اطلق فى السلطنه جماعه من المنادين يحملون الاخبار للناس دون ان تعود اليه للتنقيح..

للمره الاولى يشعر الشهاب بالارتباك..حاول ان يجند بعض من رجالات الزينى للعمل ضده, لكنه لم يفلح فى اختراق الجدار الحصين..من ثم لجأ الى تجنيد الشاب الفقير (عمرو العدوى) للتجسس على زميله نصير الزينى (سعيد الجهينى) لعله يكون الثغره التى ينفذ منها الى قلب غريمه..

ساعات..شهور..ايام..كل ما عليه هو انتظار ان يفصح هذا (البركات) عن وجهه الحقيقى..

طرق الشهاب فى تأليب الرأى العام..

سنحت الفرصه المنتظره لـ(زكريا), حين علم برغبه غريمه فى اناره شوارع القاهره المظلمه بالفوانيس, اماناً للناس واتقاءاً للقتل والسرقات..

كانت له طرق جهنميه لا تخيب ينجح بها فى توجيه الرأى العام الى اى مسار يريد مثل:

- نشرَ المُقرب من رجاله بين الناس يطلقون الشائعات على الزينى وفوانيسه..

- وزّع جماعه خاصه من المنادين (اعلاميى ذلك العصر) فى ربوع السلطنه المختلفه, يطلقون الاخبار المضلله والاكاذيب..

- اوعز للشخصيات  المحبوبه لدى الناس مثل (ابن كيفه) مدمن الحشيش, اطلاق النكات المشاكسه المُتسربه الى الوعى عن الزينى والفوانيس..

- استخدم الغناء القريب لقلوب الناس فى الصوت الشجى لـ(ابراهيم ابن السكر والليمون) مع الحان خفيفه يسهل دندنتها, وكلمات سهله يتيسر حفظها, تنكل بطريق غير صريح بالفوانيس وصاحبها..

- اشاع الفتنه بين طبقه المثقفين المتدينه فى الازهر باثاره التساؤل: هل الفوانيس مبتدعه ام لا؟؟

- تلاعب بالقضاء ليصدر حكمه النهائى يتجريم تعليق الفوانيس..

واخيرا تُنسف فكره خصمه من اساسها, وتتزحزح مكانته العاليه لدى السلطان والناس..

• تحالف الاقوياء..

حين يفشل الزينى فى معرفه مكان مال سلفه (ابن ابى الجود) المُخبأ كما وعد السلطان, لا يجد طريقاً سوى اللجوء الى خصمه العتيد الخبير بكل الاسرار..

وحين يرفض (زكريا) التعاون, يهدده الزينى بفضح امر (شعبان) غلام السلطان الاثير الذى اختطفه لأشباع ميوله الشاذه..

هنا يجن (زكريا)....كيف يعرف؟؟ كيف اخترق الحصون الى قلب قلعته؟؟

بدأ الشك يلتهمه ويحيل لياليه الى جحيم..لم يعد يأمن لخواص رجاله وحريمه..حتى هداه التحرى الى (وسيله) جاريته العذراء البضه التى جددت شبابه, وبثت فيه الروح بعد خواء..اخمد الخنجر الماضى فيها وهو يشعر بنصل الزينى البارد يولج قلبه المحطم..

 وبعد كل هذا يا (ابن موسى), تجىء الىّ ماداً يدك طالباً التعاون؟؟

لم يكن (زكريا) يعرف كيف يشعر بالتحديد تجاه الزينى..ايحبه ام يكرهه؟؟ يتنازع عقله المُعجب بعقل غريمه السابق لعصره مع قلبه الراغب فى قتله وهزيمته مُكللا بالعار..

العلاقه معقده..كلا الرجلين لم يعد راغباً فى الخلاص من الآخر..من دونه تعود الحياه الى عُهده خصوم غير اكفاء..تفقد طعمها وتروح منها اللذه التى يبعثها هذا الصراع الندى الاسطورى..

بتحالفهما ونسيان احقاد الماضى يصبحان قوه خارقه لا تُهزم..

هاك يدى يا (بركات)...

وبزغ فجر لعهد جديد لم تشهده مصر ولا غيرها من قبل..

(يتبع)