الاثنين، 19 مارس 2012

تحقيق……

 

interrogation-chair

كل شىء محسوس حتى دبيب النمل...

نشاط عارم فى الحواس..يسمع ارتطام الشهب و يرى دوران الكواكب فى المجرات..يصغى لهمس الكائنات الماورائية باسرار الحياة..و يبصر فى الحجرة الضيقة اسراب من طائرات المراقبة الصغيرة تهيم فى مجالات بصره كفراش يحمل شعلات من نور...

الحجرة ضيقة..خانقه..كالقبر..على الجدار ساعه مستديرة..لا ارقام فيها..فقط اشراط..كل استدارة لعقرب على شريط تصنع صوتاً كسوط لازب يفرقع فى الهواء..تك..تك...لا رئيس على الجدار فالبلد دون حاكم..و من على علم الجمهورية طار النسر و انخرط وسط الفراش..

فى مكان ما استقرت مكتبة صغيرة..كتب عديدة تتحرك فى انسيابية كأنها اصابع بيانو من تحت الغطاء الاسود..على زجاجها الشفاف لمح انعكاس السجينة التى رئاها فى الممر و التى الى حد كبير تشبه الضحية , فالتفت ورائه فلم يجد الا نافذة صغيرة , منعها عن الحرية قضبان طولية..

و الهواء بالخارج زوبعه , تحمل ملايين الحبات الدقيقة من الرمال..كل واحدة منها قطرة ماء تفتت صخر النافذة الخشبية..دن..دن..دن..تتحرك النافذة مع تيار الهواء جيئة و ذهاباً..حول بصره عنها حتى لا يجن...

قبالته استقر المحقق خلف المكتب الصغير..رجل معتدل البنيان..مستطيل الوجه..عريض الجبهه..رفيع الشارب..دقيق العيون و الملامح..تراكم على وجهه العديد من البثور الحساسة..

حوته بذله زيتيه واسعه..على كمها الايسر زران من الذهب الخالص..و عروة القميص من تحت الحلة اوسع , كأنه جلباب..و سوار الساعه اوسع و اوسع..يلف حول محور المعصم كأنه افعى خشى ان تلدغه..

و على يسراه (المحقق) استقر الكاتب..نحيل..نحيل..كأنه قصب بلا عصارة..و لا بائن منه سوى شارب غليظ..

لا احد يلتفت اليه..او يعير اهتماماً لنظراته المتفحصه..

جعل المحقق يقلب فى المكتب من امامه كأنه ينقب عن شىء ما..يعابث الحافظة الجلدية العريضه رغم انها خالية..و من امامها القلمان الطويلان المستكينان فى تلك القوائم الطولية..حتى القطعه الرخامية التى احتوت نقش اسمه و صفته, كوكيل للنائب العام لم تفلت من اصابعه الباحثة النهمة للحقيقة..

شعر بنفسه يجفل خشية ان يكون البحث فى متعلقاته هو القادم...لكن البحث توقف دون سابق مقدمات رغم ان العثور عن المفقود لم يسفر عن شىء..

لا يهم اياً كان هو..فما الحاجة الى اجوبة و قد ضاع السؤال الى الابد ؟؟

الباب يُطرق فى عنف..طاق..طاق..طاق..رغماً عنه انتفض و خشى ان يكون المحقق قد لمحه..لكن الاخير كان كل همه معلق بالوافد الجديد..

صرير مزعج...ايييييييييييييييييييييييييييىىء...الباب بحاجة الى تزييت عنيف..كل شعرة فى جسده تقف فى اهتياب..و يجز على اسنانه حتى شارفت التحطيم..
 

ظهر جندى ريفيى ضئيل البنية يحمل فنجالاً من القهوة..يسير بخطوات ثابته لكن رغماً عنه شعر بالفنجال و هو يهتز منه على حامله..كسطح بركان هامد على وشك الثورة..توقع ان يزول وجهها المتين و يسمع التوبيخ للقادم..لكن شيئاً لم يكن..هاهى امامه سليمه و ابخرتها الزكيه تضيع فى غمار الزوبعه المجنونة بالخارج...

لم يرتشف منها..بل مثلما فعل معه ترك انفعلاتها تبرد..ما اوسع عروة قميصه ! و ما اسرع الحركة المجنونة لساعته !

انتزع زرا الذهب من السترة..القاهما باهمال على زجاج المكتب حتى كاد يتشقق..صوت عنيف..عنيف..عنيف..رأى الزجاج من تحتيهما يتحول الى ماء بحيرة القى فيه حجر..و الامواج تتسع و تتسع لتبتلع كل ما على المكتب و كل من فيه..دوى مزعج..تاك..تاك..و المشكلة انه القاهما على تباعد..و كان عليه ان يتذوق مرار العذاب للابد...

ارتشف اول رشفه من القهوة بصوت عال..سفففففففف...هلا تعطف عليه الآن و القى نظرة ؟؟ كلا..انه يتركه ليدور فى حوار قصير مع الكاتب...

فليكن..انها فرصة لا بأس بها لترتيب مجرى الحوار و الاستعداد لأى شىء...تخيل التحقيق كيف سيكون..انفرجت شفتاه دون شعور لتجيب اسئلة لم توجه له..فحال كفه بينها و بين العيون...

س1:ما علاقتك بالمجنى عليها ؟؟
ج1: المرحومة طيبة الذكر كثيرة المعارف و الاحباب...حضرتك راجل متجوز و عارف...ثم سيضحك..و يكرر ذات الجملة بذات رنين الضحك كأنه شريط مكرور...

ثم يتابع بلهجة خاصة:
و لأجل زواجى ايضاً احب ان يظل تورطى فى هذه التحقيقات سراً..

 

سيهز المحقق رأسه فى تفهم و كأن الامر مفروغ منه...

 

و هاهو اول سؤال قد انتهى..هو مستعد..فلم لا يسأله...؟؟

 

لقد فرغ من حواره الجانبى الصغير..و القهوة ما تبقى منها برد..لا يعلم اهو وسواس خاص..ام انه يشعر بنظراته اليه من حين لآخر..كأنه فتى يشاغل فتاة..فيخبرها انها جميله و يتركها..يعابث عقلها و يخلفه حطاماً الى الابد...

اخرج المحقق من جيب السترة الزيتية كيساً صغيراً من البطاطس المقرمشة ! ينظر اليه و عينيه متستعان فى ذهول..و المحقق لا يلحظه..الكيس الصغير يحدث فى يده صوت مقزز..(خشولة)..كريييك..كرييك..و اللعين يداعبه بيده كأنه قط قبل ان يفتحه..و صوت انطلاق الهواء المكتوم..بوم..يمد للكاتب بالكيس , فيرفض الاخير باسماً...يمد له و عيناهما تلتقى للمرة الاولى..فيرفع كلتا يده فى وجهه كأنه يدفع عن نفسه الاتهام..

اخرج القطعه الاولى من الكيس و قربها من فمه...بها انثانيات و تعريجات عديدة..قطرات العرق البارد تتكون على جبهته..بارده جداً..تلسع جلد جبهته المقشعر..تتساقط على عينه فتلعب دور العدسة المكبرة..العالم كله كبير واضحة دقائقه..يتأمل فى ثنايا قطعه البطاطس..فيلمح عالماً من الذهول..قطعان مهاجرة و صحارى و زلالزل و فيضانات و جمال و عظايا ما قبل التاريخ تتصارع على فرائس ضعيفة...يكاد يبكى من القهر و الرعب..حتى اكلها فتلاشى العالم..كراش..كراش...انياب و قواطع حادة جداً..لو انطبقت على ساعده لأدمته..
 

مسح عنه حبه العرق , فلم يعد يرى سوى الفراش النورانى العجيب , فهدأ....

و الساعه لا زالت تدق..و النافذه مازال يداعبها الهواء...

 

فليستغل صمته و انشغاله و يسأل ذاته السؤال الثانى...ليكونن متحضراً لأى شىء...

س2: و اين كنت ساعه قُتلت المجنى عليها ؟؟
ج2:كان مع اصدقائه فى المقهى طبعاً..حيث يتسكع بعد العمل عادة..الف من يشهد..الف من يدل..الادلة وفيرة و الشهود كثر...

لن يذكر احد ساعتها انك كنت فى حال من ذهول..او انك كنت ممتقع الوجه..او انك كنت لا ترى من العالم الا العدم...

لم يرك احد و انت تقفز من النافذه الخلفية كالقط..و تجرى فى الشوارع كالكلب المصاب بالصرع..مستتر بالظلمة و امان الليل..لم يرك احد فى طلوعك او نزولك..فلا تجزع و تحل بالكتمان...

اولم تقتلها فعلاً ؟؟
ليتك انت ذاتك تعلم...لقد ظللت طيلة الفترة السابقه تظنه حلماً..عشت حياتك فى طبيعيه , ظاناً انك ستزورها فى يومك المعتاد حين تزول السحابة و تصفو النفوس..حتى قرأت و سمعت..فعاودتك الذكرى الضبابية عن كابوس...

فلتتذكر..فلتتذكر عل عقلك يعود...

لقد كنت هناك..واقفاً معها بين جنبات شقتها الفاخرة الواسعه..فى حجرة نومها بالتحديد..كنتما فى اوضاع متباينة من الوقوف..هى تحاول ان تواجهك و انت تفر بنظراتك فى ضيق الى بعيد..

تصرخ هى و تتذمر..و تزعق..و انت تسافر بذكراك الى ايام كان فيها هذا البيت موطناً للسعادة البهيمية..و الآن ؟؟ ما اقربه الى  عشٍ ثانٍ للزوجية..

يختلس اليها النظرات فلا يرى سوى زوجته ميتة الملامح و الشعور, و طفليه البكائين..متى ماتت المتعه فيها و تحولت الى زوجة ؟؟ متى استفحلت مطالبها و كثر ابتزازها ؟؟ تريد الزواج ؟؟ تريد التوبة ؟؟ و هو الكبش المختار  ليدفع ثمن خطايا الف مما سبقوه ؟؟

تتحدث و تتحدث و هو صامت , تفكيره منصب على هدف وحيد..متخوف حيناً..متوثب حيناً..و وصوت غامض يهب فى خلاياه ان لم لا ؟؟ يريدها..يريدها الآن و بشده..

من حيث لا يدرى و لا تعلم هى..قفز نحوها بضراوة فأختل توازنها حتى سقطت على الفراش المريح..ظنت فى البداية كما ظن هو..انها واحدة من شهواته الجسدية المفاجئة التى تنتابه دون انذار..فواصلت السباب و التملص..و هو يحكم سيطرته عليها..يعتليها كأنها مطيه للركوب..ركبتاه يمنعان  ساعديها من الحركة..و يده القوية تحكم على..عنقها ! نظرت اليه بدهشة و انذعار حيوانى..بينما هو يشعر بنشوى لا مثيل لها..يفكر وسط اللهاث..هاه..هاه..كيف لم يخطرله هذا من قبل ؟؟ انه ممتع اكثر الف مرة من لقائتهما السابقة..اوليس مثله فى كل شىء ؟؟ التحام لأجساد متصارعه ضائعه بين الالم و المتعه؟؟ مقاومة و تمنع ؟؟ لا يهم ان كانت الروح تولد اذاً او تموت...هو واثق بأنها تستمع الآن بقدره رغم ما تبديه...

منحناه الخاص صاعد فى تسارع نحو ذروة غابت طويلاً فى زحام الحياة..

الضجر يموت..و متاعب الحياة تتوانى..ضجيج العالم يخفت..الشعور يستيقظ..و الحب ممكن...و الامل حى..و الفرص متاحة...و التوبة ميسورة..و الغد افضل بالتأكيد..

يمتص منها الوجود..كل ضغطة تدنيها من عالم آخر تدنيه هو من عالمه..

مقاومتها تزيد..و استمتاعه يزيد..

جسدها من تحته آخذ فى التلوى كأنه طير مذبوح..صراخها مكتوم تحت اطراف انامله..كل هذا مترابط..كل هذا يمس قباب القمة..يشعر بهذا..يكتم انفاسه بارادته كما يفعل معها حتى لا يشهق..يلمح على عينيها التوسل و انعكاس لشيطان...و تنزاح انامله من على فمها فلا يسمع سوى صوت مقزز...

ارررررررغغغغغغغغغغغرررررر….

لا يتوقف...لقد وصل الى حال من الجنون يستحيل معها التوقف...سيواصل حتى الموت..و الغريب انه فى هذه اللحظة كان يقصد موته هو..

الحرارة تشتعل فى جسده و كلتا يديه تضغطان على تراكيب الهواء برقبتها فى قوة غاشمة..

حتى استكان كل شىء..سقوط مدو من حالق..من قمه منحنى النشوى الى الصفر...و بداية لفترة طويلة من الجموح...

ظل على وضعه..لاهثاً..متعرقاً..و الحرارة تنسحب من جسده ليحل محلها البرودة القارسة..لا يدرى منها او منه...ظل يتأمل لثوان وجهها الشاخص و نظراتها المتعلقة بالسقف..ظناً منه انها ستفيق..جعل يهزها فى شىء من العنف...لماذا لا تبدى اثراً للحياة ؟؟ توقع ان تضحك و تشكره على هذه السهرة الصاخبة...

راعته النظرات و الجمود..فانتفض من ملامسته لها..ترك الفراش بخطوات بطيئة و ركن ظهره الى خوان مجاور..ترك نفسه لينساب بهدوء الى الارض و قد تحول جسده الى عجين...

شعر فى جسده , باثر زوال متعه طاغية آثمة اعقبها خواء و ضياع و شرود سعيد..لم يدر ما يفعل و لا يفكر..فقط ظل على وضعه تخرج الانفاس من منخريه كأنها خوار ثور..

تأملها بنظرات لا تعى..فشعر بجسدها ينتفض و يهتز بعنف خفيف..كأنها هزة اخيرة لجماع الموت..ثم استكانت تماماً..تماماً..فلم يسمع من الكون سوى الصمت و الذهول...

لقد ماتت..قتلها..ماتت...

لا يمكن..لقد كانت مجرد علاقة عبارة..فكيف كان و ماذا حدث ؟؟
جرى اليها فى سرعه..جعل يهزها..يعنفها..يلطمها على وجهها..يشكو..يتوسل..يعض..يخمش..يبكى..يرجو..يغضب..يعنف..و لا حراك..و لا تغير لوجهه الابصار..شعر بالبرودة تكتنفه..و برغبه فى البكاء..فاستكان على صدرها و جعل يبكى كأنه طفل صغير...

ماذا يفعل ؟؟ هو حلم ؟؟ هى ميته ؟؟ ماذا حدث هنا ؟؟

جعل يطوف فى ارجاء الشقة كالمجنون..يمسح كل اثر له على الحوائط و الجدران بهستيرية و عنف..يمسح اثر خطواته و بصماته و انفاسه و بقايا روحه التى علقت فى المكان..غير كاف..غير كاف...و ماذا سيكون ؟؟ عمله..زوجته البليده..و طفليه كثيرى البكاء..و حياته المضجرة..كل هذا سيزول للابد..فماذا سيكون؟؟ سيجدونه حتماً...ماذا يفعل ؟؟ماذا ؟؟ ماذا ؟؟ اتجه صوب المطبخ بلا تفكير..انتزع من هناك جركن الكيروسين الكبير..كان ثقيلا ممتلئا و لم يدر يوماً ما نفعها به..ظل يترنح تحت ثقله يمنة و يساراً حتى استقر على ارتجاف..غطائه كبير متسخ لا يستجيب لانامله غير المحكمة..يركنه الى فخذه كسطح صلب , ويحاول فينفتح..

جعل يبعثر منه على كل شىء يقابله فى طريقه و هو يمنع نفسه من الصراخ..ما اضخم بيتها و ما اخوى حياتها..دخل الى حجرتها..ود لو رئاها قد انهت مزاحها و قامت فينتهى كل شىء..لكن عيونها المفتحة لازالت تنظر اليه باغية القصاص..جعل ينثر السائل المحرق حول الفراش فى دائرة و هو ينظر اليها و يبكى و ينهنه فى حرقه كأنه طفل..ثم القى الدفقة الأخيرة على وجهها كذريعه نهائية لامل الافاقة..و لا حركة الا الموات..

جسمه كل يتشنج حتى ليكاد يسقط فى اغماءه..يتمالك اعصابه..لا ينظر اليها..كل هذا حلم..كابوس..سيستيقظ فى فراشه و يشرب الماء و تهدأ اعصابه الى الابد..اخرج من جيبه عود الثقاب و نظر اليه فى تردد..ثم دون تفكير جرى به على المشط الخشن..ينثنى..ثانى..ثالث..رابع..يبكى..اعصابه تتحطم..لكن ارادته لا تلين..يشتعل...معلق فى يده حتى  يكاد يحرقها..ينفلت من يده رغماً عنه..و قد راودته افكار اخيرة فى اطفائه و انهاء المحرقة..

فهااااااااااااااااااااااااام....!

الجذوة المشتعلة تجد الحياة فى السائل النشط..الراوبط العضوية تنكسر و الحياة تولد فى النيران لتبتلع الجيف و الادلة...زهرة برتقاليه ساخنه و الاحمق واقف فى غمارها..تصنع دائرة حول الفراش..فلا تقرب الجثة الا حثيثاً..و هو على وقفته المتأمله صنم جامد..

تمسكها النار..و نار الحلقة باتت جحيماً مستعراً..و الام ستظل على وقفتك ؟؟ فكر لو يلقى نفسه معها لكن الجبن منعه..يراها من خلف السنه الشياطين تمد لها يداً و ترجوه المساعدة..يجن..يفزع..لكن النار حالت دون كل شىء...

يجرى نحو نافذة المطبخ  الواسعه...الحرارة من خلفه باتت لا تطاق..يخشى لو نظر خلفه لألتهمته..تغلبت حيوانيته على تفكيره و هو يقفز على السلم المعدنى الخلفى للبناية العملاقة..متى يستيقظ هؤلاء و يشعرون ؟ لن يكون هناك ليعلم..صوت النار عال..و صوت صراخها اعلى..و هدوء الشارع قاتل..لا يخرقه الا صوت خطواته المتدافعه على السلم الرفيع..

لو تعثر لسقط و مات من هذا العلو الشاهق..هذا لن يكون بعد كل ما حدث...انفاسه تضيق..و قلبه يتحين لحظة ما ليتوقف..و اقدامه تمس الارض...لن يتوقف الآن..جعل يعدو فى الشارع بسرعه جهنمية..بعض الكلاب تفكر فى مطاردته لكنها تشعر انها لن تجاريه فتعدل..يجرى حتى يباعد بينه و بين صراخها المستمر الى الابد...

يخرج الى الشارع الرئيسى..يجد النور..سيارات الاجرة..يوقف احداها..يستقلها..يضيع وسط الصخب..يذوب فى بحر النمل..فرد فى مستعمرة..يسأله وجهة مألوفة..و يدارى وجهه عنه و يعض على شفته السفلى كى لا يصدر منه صوت بكاء.....

كل هذا حلم اكيد...

و المحقق يمد له علبة سجائره المفتوحة و قد برزت منها سيجارة طويلة..الن يسأله ابداً ؟؟ الن ينظر اليه ؟؟ فليقتله و ينتهى , فليعدمه و ينتهى , ما بال هذه الالعيب؟؟
 

شكره للمره الثانية..يضعها المحقق فى فمه..يدورها بضعه مرات و يدخنها دون نار..ثم يقرب منها قداحته و يجربها فلا تعمل..كليك..كليك...لا تعمل..يجرب و الصوت يحطم اعصابه..حتى تطوع الكاتب بعود كبريت اشتعل من اول مرة...

فهاااااااااااااااااام !

و الجذوة المشتعلة التى احيت التبغ توقظ الذكريات البغيضة..ينظر الى المكتبة فلا يرى سوى وجها المتعرق الصارخ بين الالسنة المشتعلة...يريد البكاء..يريد البكاء بشده...رفع اقدامه من على الارض خشية ناراً وهمية ستلتهم كل شىء..

انفاسه تضيق..عرقه يزيد..يسمع صوت حركة امعائه الدودية و هى تتوقف..معدته تتقلص..غثيان مريع..سيغرق المكتب فى بركة من القىء..انه ضعيف..ضعيف..و لا قوى فيه سوى صوت دقات قلبه...

دوووم..دوووم...

خشى ان يسمعها اياً من جلاديه فينعتوه بقله الذوق...

الهاتف يرن...
تررررررررن...ترررررررررن...

و هنا ينظر اليه المحقق باسماً و لا يرد..
الآن ينظر اليه و يعطيه اهتماماً..الآن حين لا يريد...رد بالله عليك..رد..فليرد الكاتب..او لترد انت..فقط لينتهى هذا الصوت..

ترررررررن…ترررررن…

رد اخيراً...

كانت محادثة وديه من ظاهرها..لكن عين المحقق تحولت الى كشافات لا تفارقه..و ضاق بنظراته مثلما ضاق بتجاهله..يبدو انه يسمع دعابة على الطرف الآخر..لأنه يضحك..ضحكة رنانه قاسية..لها صدى لألف من يردها و يشاركه الضحك..

ههههههههههههههههههههههههههههههههههههه...

وجهه للحظات يبدو و كأنه شيطانى فى نظره..لكن الانفعال اللحظى متوهم..الكاتب يزجى وقته بخط بعض الملاحظات العابرة فى الدفترة..قلم جاف حاد..و ورق حكومى خشن كأنه مصنوع من فتل..سكين يغوص فى صدر..او اصابع تنحكم على عنق..لا يدرى لكن بدنه من جديد يقشعر...هذه جلسة من العبث..عبث..لا شىء..لا شىء كبير..

قلبه يدق اعلى..دوووم..دوووم...دوووووم..يسمع صوت خدوشاً صغيرة فى قفصه الصدرى..تشققات صغيرة..تكبر..تتنتشر..تسرح فى الجدار..لتصنع شقاً طولياً طويلاً , يتيح للسجين الهرب الى الزوبعه بالخارج..سيفر قلبه و يتقافز على المكتب امام المحقق واشياً بالسر العظيم..يضع يده على صدره مانعاً المأساه...

و ماذا سيكون سؤاله الاخير يا ترى سوى..

س3: هل لديك اقوال اخرى ؟؟
ج3:........................................................

صوت الساعة..تك..تك.. صوت الرمال على النافذة..دن..دن..صوت الطرق على الباب..طاق..طاق..صوت صريره المزعج...ايييييييييييييييء..صوت ارتطام الازرار بالزجاج..تاك..تاك..صوت ارتشاف القهوة..سففففف..صوت (الخشولة)..كرييك..كريييك..صوت اندفاع الهواء المكبوت..بوم..صوت قضم البطاطس بالاسنان القويه..كراش..كراش..و وصوت دقات قلبه..دووم..و صوت القداحة..كليك..كليك..صوت النار..فهااااااااااام.. صوت اللهاث..هاه..هاه..صوت الركض (كيف يُكتَب هذا ؟؟)..صورة المتوفاة على المكتبه و الزبد فى حلقها..ارررررررغغغغغغغغغغغرررررر... صوت رنين الهاتف..ترررن..ترررن..صوت الضحكات..هههههههههههههه..و وصوت القلب من جديد..دووم..دوووم...

كريك..سفففففف...دوم..تك..طاق..ههههه..ترررن..هاه..هاه..دووم..دوووم..دن..
طاق..دووم..تيك..بوم..
فهاااااااااااام..
ارررررررغغغغغغغغغغغرررررر.....
تررررن...تررررن...دووم دووووم...هاه..هاه..
دن..دوووم...كراش...طاق..كليك..
دوووم..دوووم..دوووم..

لم يحتمل...وضع يديه على جانبى رأسه و قد احتشدت فيها الاصوات و الصور دفقة واحدة دون رحمة..فتح فمه فصرخ دون صوت حتى جن...جعل يردد فى ذاته..

ليهدأ الصخب..ليهدأ الصخب..ليهدأ الصخب...

ثم فجأة صرخ فى المحقق

" انا قتلتها..انا قتلتها..اقسم بالله انا قتلتها و احرقت جثتها..ارجوك اجعل الاصوات تتوقف..انا قتلتها..اعدمنى و اخرس الاصوات الى الابد..."

ثم حنى رأسه على المكتب الصغير و جعل يبكى بنواح طويل و قد هدأ كل شىء من حوله فجأة..

بينما المحقق ظل من امامه على ثباته و قد افتر ثغره الدقيق عن بسمه صفراء..........

 

( تمت )