الاثنين، 5 سبتمبر 2011

Accidental Puncture….2


ملحوظة :

Accidental Puncture

تعبير اجنبى شائع بين الاطباء و يعنى الوخز بالابر عن طريق الخطأ…

-  هذه القصة خيالية لكن اجوائها ليست كذلك..بل هى جزء من واقع مؤلم يحياه كل طبيب فى مصر و آمل فى يوم ما ان يتغير……

*********************

ملخص لما سبق:

تدور الاحداث حول طبيب اسنان يحيا حياة طبيعية مماثله لكل نظرائه فى مصر..يكرر كسر روتين حياته و السعى الى مصدر اوفر للرزق بالسفر الى السعودية..لكن تحاليل الدم التى اجراها توطئة لسفره تصدمه باصابته بمرض الالتهاب الكبدى الوبائى..

**************************

 

p12

" مالك؟؟ "
تنطقها (دعاء) مشاغبه و انا اتجاهلها و انظر الى صفحة النيل الجميلة التى انعكست عليها اشعه الشمس الرقراقة فأكسبتها لمعاناً جميلاً....
معها كل الحق..لم اكن منتصاً لها البته..فى الواقع منذ حديثى مع طبيب المعمل و انا اعامل الدنيا بوضعية الطيار الآلى..جسدى يعرف طريقه بين الناس..بينما عقلى تائه فى ملكوت من الفكر....

(Accidental Puncture)

اللفظ الاجنبى يدوى فى ذهنى عاليا جداً حتى لم يعد اى شىء مسموع سواه...( الوخزة الخاطئة)..ما كانوا يحذرونا منه مراراً..نحن نعمل فى حقل من  الألغام..هكذا كان استاذتنا تصرخ باستمرار.. توخ الحذر من وخز الابر..غط الابر بيد واحدة حتى لا تصاب..مصر واحدة من اعلى دول العالم فى عدد مرضى و ناقلى الالتهاب الكبدى..مرض لعين لا علاج له..ستصير مصدر للعدوى الكل يخشاك..حتى تموت بعد ان يتوقف كبدك عن وظائفه فتصير اصفراً كورق شجرة انقطع عنها الماء....

(Accidental Puncture)


قرأتها مراراً و سمعتها مراراً.. فى كتبى و محاضراتى و من استاذتى و من زملائى..هبتها فى سرى لكنى دائما ما كنت اشعر انها ابعد ما تكون عنى..هذا شىء قصى بعيد..يحدث لسواى..اما انا..فأنا حذر دائما..لن تطالنى المخالب الكريهه لهذا الغول...لكن كما قال هذا الطبيب..منذ متى و الحذر يمنع القدر؟؟

لكن متى حدث ذلك؟؟ لا اذكر...
لو حدث هذا فى تاريخ قريب لتذكرت..اين؟؟ فى العيادة؟؟ لا اظن..الفرص اكثر فى المستشفى حيث الفقر و مدمنى تعاطى المخدر بالحقن...يالها من كارثة..فقط انا لا اذكر..اشعر ببقعة ما مظلمة فى عقلى..اسمع فيها اصوات و حركة..هى فقط تحتاجنى ان اسلط عليها قليل ضوء كى تصير مرئية....

****************************************************
" الدم زيادة..محتاجين شاش..العيان نبضه وطى قوى..اجرى بسرعه هات ( الالفيوجيل)..."
المريض مصاب بسيولة فى الدم..الفحوصات الاوليه اشارت الى قدرته على اجراء هذه العملية البسيطة لأستئصال ضرس العقل جراحياً..لكن الدراسة الاولية شىء و العملية ذاتها شىء آخر..لقد غرق كل شىء فى بركة صغيرة من الدم و المريض بدأ وعيه فى التسرب و جفونه فى الانسدال...وجهه يكتسى بشحوب عجيب كأنه مستغرق فى نوم عميق..اطلت التأمل فى ملامحه المسجية مأخوذاً عاجزعن الحركة..النائب يصرخ فىّ و هو يجاهد لأيقاف الدم ليعيدنى الى عالمه.. لاازال بعدى ناقص الخبرة لا اعرف ما يريد او ان جو التوتر العام قد انسانى كل ما تعلمت فى الكتب...اشار لى فى عصبية الى الزجاجة  الصغيرة التى تحتوى على المادة المستخدمة لأيقاف النزف موضعياً...احضرتها فى عصبية دون ان ارى..فقط لـ....
آآآآآى..
تباً..لقد تحرك غطاء المحقن الملوث فى خضم الحركة الدائرة فى غرفة العمليات المصغرة..و قفازى الجراحى كان متمزقاً و نسيت تغييره...لكن لا وقت للتفكير..فلننقذ ذلك الكائن المسكين اولاً...النائب يوقف النزف بمعجزه و اصابعه السحرية تخرج الضرس بمهارة عجيبة..يداً تخيط الجرح و الاخرى توقف النزف باستمرار بينما يدى الدؤوب تتبعه بالشافط العملاق لتمنع اى تجمع دموى يمنعه من الرؤية..تأملته منبهراً..يوماً ما سأصير فى مثل براعتك..فقط اعطنى بعض الوقت..المريض يهدأ و يعود وجهه الى اللون الطبيعى بعد ان كاد ان يقتلنى الى جواره...دقائق و سيفيق و سيعود افضل من ذى سابق..لن يتذكر او يعى حجم ما فعله النائب لأجله لكن لا يهم طالما هو بخير…الملم انا الأدوات المستخدمة كلها لأضعها فى التعقيم..اغسل يدى و انا اشعر بزهو بالغ بأولى العمليات التى احضرها كمساعد...اشعر بألم خفى فى اصبعى..لا ادرى ما مصدره..لا يهم...المهم هو تفاصيل تلك العملية التى لن انسها مهما حيييت....

*************************************************
اعود الآن فأتذكر كل ذلك....
كم مر على هذه الواقعة؟؟ حوالى خمس سنوات... ربما أكثر..المرض فى المرحلة المزمنة اذا..ربما  مررت بالمرحلة الحادة منه عقب الوخز..قد أكون قد شعرت ساعتها باعراضها الطفيفة  فحسبته برداً عابراً او لم اشعر بأى شىء على الاطلاق..هذا المرض مخادع جداً..سنة الامتياز و اولى عمليات استخراج الضرس جراحياً التى لم تجر على ما يرام..يال العجب!! لقد اصبت كى انقذ حياة انسان لم يكن صريحاً معى..ضاع مستقبلى كله بسبب قلقى على انسان آخر لم يعبأ بى..يالها من مفارقة !!

ماذا عن السفر؟؟ يمكن اعتباره لاغياً...هل سيمنعونى هم بعد ان يروا نتيجه الفحوص؟؟ لا ادرى..لكنى لا انوى ان ارى هذه الورقة لمخلوق..سيكون هذا هو سرى الصغير....
ماذا عن الزواج؟؟؟

" بقولك مالك؟؟"
يعود صوتها الجميل فينتشلنى من افكارى السوداء و يعيدنى الى عالم الاحياء..آه..كم انت شىء عزيز غال..!! يجب ان تخرجى من كل هذا..يجب الا تصيري جزءاً منه..لو علمت فستأخذك روح الاستشهاد و حب التضحية و هذا لن يكون...
" مليش"
بصوت بارد جداً...
" بس انا حاسة ان فيه حاجة..."
اسلوبها المشاكس الذى احبه كثيراً...
" يووووووووووووووووووووووووووووووووه !!"
"ما قلت مفيش..هى حكاية؟؟"
يمتقع وجهها اثر غضبتى المفاجأة غير المبررة..لكنها تعود فتبتسم كعادتها و قد جعلت مهمتها ان تمتص توترى الناجم عن العمل المتصل كما تعتقد و كما تفعل دائماً...
"طيب جهز نفسك عشان هنروح (دمياط) بكره نشترى اوده النوم...(تضحك) و لا نسيت؟؟"
حجرة النوم التى سنشتريها و نضعها بمنزلى الذى اقيم حاليا لتنتظرنا ريثما نعود من السفر...
" ما نستش و مش رايح...انا بقول نأجلها شوية..."
" طب و السفر؟؟"
" مش مسافر...."
هنا بدات بسمتها تزول و قد غزت الجدية محياها الجميل
" يعنى ايه مش مسافر؟؟ طب و الشغل و العقد؟؟"
" اهو اللى حصل..انا مش مسافر..و هكلم صاحبى اعتذرله عن الشغل..."
تصمت حيناً ثم يعود وجهها ليشرق من جديد
" و ماله؟؟ انا من الاول مكنتش مرتاحة لموضوع السفر ده...بس يا حبيبى بعدها تبقى تقو....."
يدى تصدم المنضدة لقوة ليهتز ما عليها و ازعق
" ميت مرة قولتلك بلاش "حبيبى" دى قدام الناس..."
وجهها يشحب حتى حاكى الثلج بياضاً..الدموع تبدأ فى التجمع فى مقلتيها..كم اكره نفسى
" و بعدين انا كل حاجة اقولك عليها على طول ماشى كده؟؟ ايه ملكيش رأى؟؟ معندكيش شخصية؟؟ نسافر؟؟ ماشى..منسافرش ؟؟ برضه ماشى....انا عاوز اسمعلك رأى..."
بنبرات مرتعشة
" انا بس عاوزاك تكون مبسوط..."
صوت عال لم افتعله و قد تجمع فيه توترى من كل ما كان
" بس انا بقى مش مبسوط......"
ثم بصوت اهدأ و ان لم يفارقه التوتر
" بصى انا بقول نأجل جوازنا شويه..انا حاسس انى مش مستعد لحاجة زى دى دلوقتى..."
ثم امام اعينها الملتاعة نزعت خاتم الخطوبة الذى لم يفارق يدى منذ اكثر من ثلاثة اعوام..شعرت انى انزع قطعه من روحى..لكنى نزعته بقسوة والقيته على الطاولة أمامها و انصرفت دون حرف.....

********************

رحت اقود السيارة على غير هدى غير عالم الى اين ستكون وجهتى او كيف انا بالغها..لقد انهيت مشروع زواجى من حب حياتى فهل هناك خسارة افدح من هذا؟؟ لا اظن..المرأة التى احب..التى اطرب  و يتوقف قلبى حين تضحك..التى تفهمنى دون كلمة..التى لم يكن لها هم سوى اراحتى حتى لو تعبت هىَ..

المرأة التى كانت على استعداد ان تترك أهلها و تتبعنى و تسافر و لو لآخر العالم..خسرتها..عاملتها بقسوة لا تستحق..لكن كل هذا لأنى احبها..لم ارد ان اضعها فى خيار صعب..خيار ان تحيا مع انسان يمكن ان تصاب منه بالعدوى فى لحظة..تعيش معه فى توتر دائم..تتسائل دائماً:هل استخدمت فرشاته بالخطأ؟؟ هل صدمت ماكينة حلاقته دون قصد ؟؟ اترانى امسكت منشفته التى تحوى قطرات من دم ما بعد الحلاقة؟؟ ايه حياة هذه؟؟

و ماذا عندما أكبر؟؟ هل ستراقبنى و كبدى يسبقنى الى الوفاة..تراقبنى و انا  اتحول الى كائن اصفر معتل لا يقوى على الحركة؟؟ ماذا عن اولادى؟؟ هل اتركهم لها ايتاماً لتحمل عبئهم وحدها او تتزوج سواى من لا يرعاهم او من لن يعاملهم كصلبه و لحمه ابداً؟؟

لقد فعلت الصواب..او ما ارتأيته صواباً فى هذه اللحظة الحرجة من عجز التفكير..ستظن فىَّ الظنون..ستنعتى بالخسة و النداله و نسيان كل ما كابدت لأجلى فى انتظار حلم ليتحقق..سنيعتنى اهلها بصفات اقبح لكنى سأتقبل  فى صمت لأن حبى لها و رغبتى فى الحفاظ عليها من نفسى اقوى من كل ذلك...

و الآن الى اين اذهب؟؟
الدنيا اشعر بها و هى اضيق من خرم الابره..تضيق تضيق حتى تكاد تجثم على انفاسى..كل الاماكن تساوت...و بات القبر ابهجها و اقربها الى نفسى و اكثرها توقاً اليها....
لا استطيع الذهاب الى المنزل الآن....لا استطيع الانفراد بأفكارى اكثر من ذلك..اريد ان انغمس فى شىء ما فأنسى او اقنع نفسى بالنسيان....

العيادة.......
العيادة و المهنة المقدسة...هى السبب فى ذلك كله..هى السبب فيما تحولت اليه الآن..هى التى اصابتنى بالمرض..و افقدتنى كل شىء تعبت لأجله فى حياتى...و كل هذا نظير400 جنيه و بضع جنيهات اتناولها مشيعه باللعنات من المرضى ليلاً لأعيش....هل حقاً كانت امى تعلم ان هذا سيكون مصيرى حين حلمت  لى ان اصير طبيباً؟؟ حين بكت يوم تخرجت من الثانوية بمجموع عال و رجتنى ان اضع الطب على اولويات رغباتى؟؟؟


19 جنيه بدل عدوى......

هذا هو ما قيمت به وزارتى المجيدة سعر معاناتى و مخاطرتى بحياتى...هذا هو ثمن روحى لدى وزارة الصحة و ما ابخسه من ثمن لأنسان امضى عمره يتعلم و يكد و يعمل..سنوات من السهر المتصل..سنة الامتياز المتعبة..عامى التكليف..و الجيش لمن التحق به..و كل هذا و روحك لدينا لا تساوى حتى ورقه مكتملة بـ 20 جنيها...الطبيب على قمة الهرم الاجتماعى..عال شامخ..يتأمله الجميع و يودون لو كانوا مكانه..و ياليتهم يعلمون ماذا يوجد هناك..ربما ساعتها لأرتضوا ان يقبعوا فى القاع الى الابد..الطب مهنة انسانيه..و الطبيب ليس انساناً..ليمت و يحتضر دون ضوضاء و ليحافظ على ابتسامته كما هى حتى لا ينفر المرضى و الا فأين اخلاق المهنة؟؟؟


19 جنيهاً.....

هل ستكفى ثمن حقن الانترفيرون التى سأتعاطها بأنتظام كمحاولة يائسة -لن تجدى- لأنقاذ ما تبقى من كبدى قبل ان يلتهمة المرض؟؟ انها حتى لا تكفى لشراء مُسَكِّناً يكفل لى موتاً مريحاً فى لحظاتى الاخيرة...هذه اكبر دعابه تلقيتها فى حياتى...
اتوقف امام عيادتى غير واع كيف وصلت اليها..اتوقف لكن عقلى مازال مواصلاً فى سباق افكار محموم يأبى ان يتوقف...

تسألنى ماذا سأخبر مرضاى؟؟
هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
علام اضحك؟؟ على سذاجتك...
غر ساذج انت حين تحسبنا نحيا فى المدينة الفاضلة حيث الناس ملائكة انقياء السريرة..تريدنى ان اصارح مرضاى بالحقيقة و تحسب انهم سيقدرون صراحتى؟؟ هراء..انا بهذا اغامر بفضيحة لا داع لها..اغامر بأن اموت جوعاً و اسرع بنهايتى المحتومة..انا طبيب و اعلم ان الصراحة فى كثير من الاحوال مكروهه..الناس تقول انها تقدر الصراحة و الصدق و تريدهما لكن الحقيقة عكس ذلك..الناس تريد من يغلف لها الواقع بالف غلاف و غلاف من شتى الوان الزينة كى يقى اعينهم صلف الواقع المرير..

اذا كنت لم ائتمن احب مخلوق الىَّ على تلك الحقيقة.. فكيف تريدنى ان ائتمن اغراباً عليها؟؟ تحسبهم سيقدرون ذلك؟؟تحسبنى سأنال احترامهم و تعاطفهم مصحوبين بثقتهم؟؟ انت واهم..هذا لن يكون..سيتعامل معى الجميع على انى موصوم رغم انه لا جريرة لى...سأظل الى الابد محل نظرات شكوك الناس و خوفهم و احتقارهم..سيخشون ان اقترب منهم..ان المسهم...
كلا.. انا لست مدمناً او منحلاً... انا فقط طبيب كان يؤدى واجبه..انا مجرد رجل كان يريح الناس من آلامها و يمارس اقدس مهنة عرفها انسان...

لندع الصراحة جانباً فلن يتحملها احد و ستؤذى الجميع..سأحافظ على مرضاى فلن أؤذيهم او اصيبهم بالعدوى.. لقد اقسمت ان اكون اداة الله فى شفائهم و سأحافظ على قسمى حتى اموت..فقط سأحافظ معه على كرامتى حتى يحين أجل الله....

دخلت العيادة كما افعل يوميا..لم يتغير فيها شىء عن البارحة لكنها بانت لعينى مغايرة تماماً..الجدران..الارضية..عم (رزق)..كل شىء فقد مذاقه السابق الذى طالما استراحت اليه نفسى..اصبح كل مكوناتها اجزاءا من ارض معادية..ارض اهابها بشده..ربما كان مجيئى هنا اليوم خطأ من الاساس...

حيانى عم (رزق) فرددت عليه دون ود..اتقدم نحو غرفة الكشف الضيقة فى تردد..اقدم ساقاً و اؤخر أخرى..لا اريد ان ادخل..لا اريد...ادخلها فأشعر بأنفاسى تضيق كأن روحى تفارقنى..جدرانها الضيقة تنطبق على كأنها القبر...تنتابنى مختلف المشاعر الكريهه لكنى مع ذلك عاجز واهن لا اقوى على التراجع..اضع مظروف التحاليل اللامع الصقيل على مكتبى..اتأمله فى صمت..تكلم بالله عليك..أهذه هى الحقيقة؟؟اهذ حقاً النهاية؟؟ ام ان كل ما مضى هو جزء من كابوس طويل؟؟؟

وقفت اتأمل ادواتى النظيفة التى اعتنى عم (رزق) بتنظيفها و ترتيبها وفقا لحاجتى..قضيت عمرى مع هذه الدوات..ملمسها بيدى مألوف..المحاقن و المشارط و ادوات الخلع..كلها فى يدى تلين و تصنع المعجزات..فلماذا انظر اليها الآن فأشعر انى اطالع مشهداً من فيلم رعب؟؟ امسكت محقناً فارغاً فى يدى ففوجئت بها و هى تهتز بعنف حتى تركته صاغراً..يا الهى ماذا حل بى؟؟ اشعر بهوة عميقة من انعدام الثقة تتكون تحت اقدامى و انا اغوص فيها دون حيلة منى..اشعر انى نسيت كل حرف تعلمته..كل سنين العمل و الخبرة التى امضيتها بعد تخرجى تبخرت..عدت من جديد طالباً مبتدئاً يهاب كل شىء ..

شعرت رغما عنى بجدار صخرى يتكون امامى..غير مرئى الا لعينى..يحول بينى و بين ادواتى و مهنتى..مهنتى...كيف سأمارسها بعد ما علمت ما علمته؟؟ كيف سأعطى محاقن التخدير للمرضى فى ثقة و انا فى كل لحظة سأتذكر ما فعلته بى؟؟كيف سأخبرهم انى سأعالجهم بينما فى سرى انا موقن انى يمكن بسهولة ان اؤذيهم؟؟

لقد اعتقدت انى سأعود بسهولة الى العمل بعد هذه الصدمة..اعتقدت انى سأدفن همومى بين المرضى كعادتى..يبدو انى كنت واهماً..سأطلب من عم (رزق) الانصراف و سأغلق العيادة الى اجل غير مسمى..

لكن الجرس يدق فى اصرار..اللعنة..هناك مريض بالخارج..ليته تأخر دقيقة واحدة ووجد المكان مغلقاً...ماذا الآن؟؟ هل اطالبه بالانصراف؟؟ عم (رزق) ما زال بأنتظارى و انا حائر عن اتخاذا قرار مناسب..فى النهاية قلت له ان يدخله بينما فى سرى انتويت ان احيل الحالة الى زميل لو وجدتها صعبة او تستلزم علاجاً مطولا يدوم لأكثر من جلسة......

يقولون ان المصائب لا تأتى فرادى...
اول زبائنى اليوم هو رجل ضخم اصلع  فى منتصف العمر و بصحبته "طفل"...
طفل صغير لم يتعد الرابعة من عمره بعد..باد الوقاحة حتى دون ان يتفوه بكلمه..و قد جعل مهمته فور دخوله الى الحجرة ان يعبث بكل شىء فيها...

رائع..لا بل ممتاز..طبعاً من اجل حسن طالعى الاب سليم و اسنانه فى حال ممتاز و مريضنا هو القرد الصغير..اللعنة و الف لعنة..أسوأ انواع المرضى طراً هم الاطفال..مهما كانت سعة صدرك و مهما كانت غريزة الامومة لديك مستترة و كامنه خلف مظهر رجولى تخدع به الناس فأن هؤلاء الاوغاد الصغار قادرين على تعدى كل ذلك و اصابتك بالجنون...انها واحدة من اللحظات النادرة التى تتداخل فيها تتخصصات الطب المتشعبة ليتحول طبيب الاسنان الى طبيب بيطرى..يتعامل مع كائنات عجماء لا تجيد التفاهم و لا تعبير عندها عن اى شىء سوى الزعيق و الصراخ..لكنهم يسمحون لهم بتكبيل الحيوانات لكنهم للاسف لا يسمحون لنا بالمثل مع الاطفال....

فى الايام العادية يكون لدى قليل من البال الرائق بما يسمح لى بمحايلة "الزبون" و اقناعه بالطرق السلمية ان يتعاون و ان يفتح فيه الكريه و كل هذا طبعاً من اجل حفنة جنيهات..لكن اليوم..اعتقد انى سأطالب الاب و الابنه الانصراف فى ادب حتى لا تحدث مصيبة....

الاب كالعادة متشكك جداً و يسأل الف سؤال فى الثانية و لا يتأخر فى ابداء رأيه دون ان يطلب منه..مرة اخرى هذا السلوك اليوم خارج اطار المناقشه...انا ساعمل و انت تصمت...نظرت فى فم الصغير..تسوس بسيط..لا يستحق كل هذه الجلبة التى يصدرها الاب و القصائد التى يصف فيها الآم ابنه المبرحة...

و الآن يبدأ السيرك...اقعد يا بنى..مش قاعد...اباه يجلسه بالقوة و يزعق: اقعد عدل بدل ما الدكتور يكهربك....حدجته بنظرة صارمة..من طلب منك ان تتطوع بالكلام؟؟ لكنى لا انكر انى انتويت ان افعل هذا بالصبى ان لم يتأدب..استكان فى مقعده اخيراً و قد هاب عصاى المكهربة الوهمية...لكن نظراته ...تباً...نظرات وقحه تفوق سنه...اشعر انه يتحدانى...كلا...لابد ان عقلى ليس ما يرام بفعل اليوم...

اعطيته ظهرى و اخذت نفساً عميقاً و انا اتأمل المحقن و انا اقول فى سرى: انت تستطيع....امسكت المحقن فعلا بعد لحظات اهتياب..يدى تهتز اهتزازات بسيطة لكنها غير ملحوظة...اشعر ان جو العمل قد انسانى مشكلتى و لو لفترة محدودة...الصغير يتأمل المحقن فينفجر فى بكاء حارق...ليس بكاء خوف..لكنه بكاء ضوضائى ينم عن سماجة او ( زنّ )..ما بتوعجش يا حبيبى...احنا هنرش بيها ع السوسة عشان تمشى...عشان ما توجعكش..ارش قليلا من السائل المخدر على يده..فيبكى اكثر...اشعر بأعصابى تنفلت منى اكثر...الوالد يراقب صامتاً بعد ان نهيته عن التدخل من المرة الاولى....

" بقولك افتح بقك !! "

لابد ان مظهرى كان مرعباً و قد تجمدت دموع الصبى وحل محلها فى عينيه نظرة ذعر حيوانية و فمه مفتوح على اتساعه...حتى الاب لمحت فيه شىء من الذعر هو الآخر..هذا لم يكن مفتعلا..لو كنا فى المستشفى لتلقى الصبى صفعه تثيبه الى رشده....كالعادة طبعاً الفقراء لا ثمن لهم....

الآن الولد فمه مفتوح..لا حجة لى..لكن اهتزازات يدى تزداد اكثر..ما تزال غير ملحوظة لكنى اشعر بها..انظر الى الصبى..ربما لا اطيقه..لكنه لاذنب له..ما الذى سأفعله بك يا صغيرى؟؟
ماذا سيكون الآن؟؟ وددت لو استخدم يدى اليسرى لأوقف اهتزازات اليمنى كما كنت افعل ايام الكلية لكن  هذا لم يعد ممكنا الآن..لم اعد املك هذا الترف و قد صرت "مرموقاً"..انتصرت على نفسى اخيراً و ادخلت السن الحاد فى فمه محاذرا ان تؤذى اهتزازاتى اى شىء فى الطريق..لم استطع ان انظر لعينه لحظه..لو فعلت لفسد كل شىء..نفس الشعور الذى شعرت به اول مرة خدرت فيها مريضاً الفارق انه لا توجد اليد الحازمة للنائب الجراحى ترشدنى و لا صوته المطمأن فى اذنى يخبرنى ان كل شىء على ما يرام..

الابره تلامس التركيب العظمى للفك..حمداً لله لقد تم ذلك دون خسائر..يبدو انى قد ظلمت الفتى او ان شخصيتى كاسحة..فهو لم يتحرك طيلة فترة الحقن...ادرت ظهرى و انا اضع المحقن فى حرص موضعه الاصلى و اتوقف ثوان قصار لألتقط انفاسى من فرط التوتر..قطرات من العرق البارد اشعر بها تتكون على جبينى و تتساقط لتعيق الرؤية خلال منظارى الطبى..صوت دقات القلب العالية لا تسمع اذنى سواها..من يرانى سيحسبنى اؤدى جراحة خطيرة من جراحات المخ و الاعصاب و ليس مجرد عمل روتينى سهل اقوم به منذ فترة تربو على العشر سنوات...

امسكت بالمثقاب الخاص بعملى و الولد مازل فاتحاً فمه و متجمد على ذات الوضع كأنه يخشى ان يغلقه فيسمع صراخى من جديد..جميل..يمكن اعتباره تحت تأثير مخدر كلىّ من الآن...خسارة..كنت لأكون ابا ممتازة..انه لأمر مؤسف انه لن يتاح لى التجريب...

اهتزازات آله الحفر اشعر بها فى يدى اقوى من ذى سابق..لكنى مازلت متحكماً بها فلم تخنى..الامر ليس كارثيا كما كان مع المحقن..اعتقد انى سأكمل دون مشاكل..سأبذل مجهوداً زائداً لكنى سأنجز العلاج فى النهاية...

اشعر بالأب فوق كتفى..انفاسه الحارة اشعر بها من خلفى ثقيلة منتظمة..و خيال رأسه الاصلع الضخم قد غطى مجال رؤيتى بالكامل..لو تفوه بحرف واحد فسأقتله...
" حضرتك هتحشيه؟؟"
" سعادتك شايف ايه؟؟"
" ههههههههه (ضحكة مفتعلة) حضرتك سيد العارفين طبعاً.....و احنا نعرف ايه؟؟ مش بيقولك فى كتاب الذكر:و اسألوا اهل العلم...هههههههههه..برضه الواحد بيحب يتنور...و لا ايه يا دكتور؟؟ و الله حضرتك شكلك ابن حلال.....ههههههههههههههه..ابن حلال مصفى..و الله انا استريحتلك...."
غبى و ثرثار و يتدخل فى كل شىء....اعتقد انه المرشح المثالى ليكون على اول قائمتى للقتل العمد..
" متشكر...هنحشى الضرس حشو عادى.."
" طب و ليه مش عصب؟؟ "
اللهم طولك يا روح
" عشان مش واصل للعصب...لسه بدرى..."
" شفت بقى العلم بيفرق ازاى؟؟؟ مش قلتلك يا دكتور؟؟ يلا يا حمادة..شد حيلك بقى..اتشطر و اتجدعن عشان تبقى زى عمو الدكتور كده..حاجة بسم الله ما شاء الله..."
ابتسمت و لم ارد...نعم..لا يوجد انتقام اقبح للصغير سوى ان يصير مكانى فى يوم..ليته يصير طبيباً..ليته....
ظننته سيخرس لكن...
" طب ليه ما تخلعوش يا دكتور؟؟"
" الضرس سليم...و بعدين لو خلعناه الضروس الدايمة اللى هتطلع بعديه مش هتطلع فى مكانها و ده هيسببله مشاكل كتير لما يكبر..."
و كأنى اهتم...كل ما فى الموضوع انى لو امسكت اى اداه خلع قرب هذا الطفل فيمكننى بسهوله ان اقتله..لدى الاراده لفعل ذلك..ان لم يكن هو فأباه....
" اصل الواد اخوه لما كان صغير حشا ضرس...قوم بقى بعدها بشوية الحشو وقع...و عملنا مشاكل و بتاع..الواد يا عينى اتبهدل...عارف..كان عاميلهوله الدكتور (.......) اللى على اول الشارع...راجل مش عاوز اقولك...عارف انت يا......."
توقفت عن العمل و الصغير ما يزال فاتحاً فمه على ذات الوضع كأنه تجمد للابد...و صرخت
" اخرس !!"
بنفس الطبقة التى استخدمها مع فلذه كبده..و التأثير واحد تقريباً..فعلا لم يمت من انجب...
"عمال تتكلم وترغى و قارفنى من الصبح..انت ايه اشتريتنى بفلوسك؟؟ يلا خد ابنك و اطلعه من هنا...روح احشيله فى اى داهية تانية..و لا روح عالجه انت...بره...برررررررررررررررره"

الرجل يحتضن ابنه و يجرى مهرولاً خارج غرفة الكشف و خارج العيادة و ربما خارج الحى كله و قد اثار مشهدى و الاداه الحادة فى يدى رعبه...ياله من مشهد..لقد غادر كثيرون هذا المكان غضبى لكن ابداً ليس بهذه الطريقة..

عم (رزق) يأتى ليرى ما حدث لكنه يلمح تعبيرات وجهى الشيطانيه فيؤثر السلامه و ينصرف ضارباً كفاً بكف..اتهاوى على مقعد المكتب و قد نزعت قفازى...لقد انتهيت..آخر حبالى بمهنتى تنقطع الآن..اشعر برغبه ملحة فى البكاء..ماذا يوجد فى حياتى الآن لأحيا لأجله...لا اب و لا ام و لا اقارب..خسرت اليوم حبيبتى وو ظيفتى...و اعتقد انها ستكون مسألة وقت لا أكثر قبل ان اخسر صحتى و حياتى...فلم انا حى اصلاً؟؟..نعم..مسألة وقت...سأعجل النهاية قليلا..فلتكن بيدى خير من ان تكون بيد المرض القاسية...

تأملت المشرط الحاد و قلبته فى يدى..غريب..الآن عادت لها ثقتها و تحكمها...ربما لأنها اقتنعت ان ما تفعله الآن هو الشىء الصائب..المشرط نظيف..و حتى لو كان ملوثاً..دمى كله الآن ملوث فما الذى اخشاه...ما طبيعة الامراض التى تصيب الجثث؟؟ اخبرنى بالله عليك...

فقط تأمل معى هذا المشهد جيداً..سأحاول ان اصفه لك كما لو كنت معى هناك:

اليدان مرتخيتان على مسندى المقعد المريح..الاكف موجهه لأعلى كما فى وضع التشريح الاساسى كما تعلمنا فى كليه الطب..وجه محمل بالهموم و المآسى كأنما يحمل عن كاهله كل ذنوب و خطايا البشر..نظرة استسلام تملأ العين الخاوية..استسلام و يأس  و عدم قدرة او رغبه على الفرار..لو اخبروا صاحبها ان علاجه من مرضه و همومه فى قنينة امامه فلن يمد يده ليرتشف منها..انه الآن ميت..المشرط الحد يتلاعب فى مهارة بين الاصابع الخبيرة لليد اليمنى..مهارة و ثقة حتى لتندهش من ارتجافها الشديد الذى لم يمض عليه دقائق..بينما اليسرى ما تزال على وضعها تتطلع الى السماء فى دعاء صامت..مثلها مثل صاحبها..مستكينة لمصيرها المحتوم..

الآن انت قد شاهدت تلك المسرحية القصيرة و كنت شاهداً عليها..لقد حانت لحظتها الختامية و مشهد الذروة فيها..السن الحاد يقترب من اورده يدى جداً حتى شعرت بالجلد الرقيق و هو يتمزق..انها النهاية..

سامحنى يالهى.....سامحنى...

****************

الباب يطرق طرقات هادئة...اجفلت و سقط المشرط من يدى ليحدث اثر سقوطه على الارض الرخامية رنيناً عالياً اعادنى الى عالم الواقع.. اجفلت, و تراجع رأسى للوراء رغماً عنى..اتسعت عيناى كأنى افيق من سنة راودنى فيها كابوس..يالها من لحظة قاسية..كنت قد حسمت  فيها قرارى و الآن توجب على ان اكابد مشاقها من جديد..

من عساه يكون؟؟هذه طرقات اهدأ من يد عم (رزق) الغليظة و لا يوجد مرضى يدخلون هنا دون مرافقته بعد ان يسبقهم الجرس...شخص وحيد مسموح له بالدخول الى هنا دون كل تلك الرسميات..شخص واحد فقط..و هو الآن سئم الانتظار دون رد و فتح الباب ليدخل فعلاً كما اعتاد طيلة ثلاث اعوام......

(دعاء).....

ما الذى اتى بك الى هنا؟؟ و فى هذه اللحظة القاسية؟؟ حسبتنى كنت حاسماً..حسبتنى كنت وقحاً..حسبتنى اعطيتك اسباباً تكفى لكرهى طيلة حياتك...فلماذا انت هنا؟؟
كل هذا لم انطقه بل نطقته عينى..عينى التى قرأت هى رسالتها دون عناء..نظرة انسان يتعذب و يمد يده فى الهواء طالبا عون من اى كائن كان...
هل اتيت فى وقتك ام ان مجيئك هنا كان غلطة؟؟؟؟؟
لا اعلم..حقا لا اعلم...

كل ما اعرفه انى حقا بحاجة اليك..لقد اقصيتك من عالمى كى احميك من نفسى و الآن انا اريدك بشده..لا ادرى كيف اصل الى منطقة وسط بين الامرين..لكنى متعب..مرهق..واهن..و بحاجة الى الراحة و لا اظنى اعرف مكاناً آخرا لها سوى عندك..........
تأملتها صامتاً كل تلك الفترة و كل هذا الكلام يندفع عبر رأسى..لكنى بطريقة ما اشعر انها فهمته دون ان انطقه.......

دون كلمه وجدتها تمد يدها الى المظروف الذى لم احركه من موضعه على المكتب منذ ان وضعته..مددت يدى فى تخاذل احاول ان امنعها لكنها توقفت فى الهواء...اضعف انا من امنع حدوث اى شىء..ام ترانى رغبت ان تعرف بدورها؟؟ اظن هذا هو الجواب الاصوب...

تأملت التقرير فى سرعه..انجليزيتها لا بأس بها و معلومتها الطبية ليس سيئه..ستفهم..قطعاً ستفهم..فرغت من القراءة سريعاً و الدموع تجد طريقها الى عينها اسرع..نظرت الى فى صمت..نظرة الجزع تتحول الى نظرة...غضب؟؟؟؟
" انت انسان انانى......."
صوت خفيض..متهدج..لكنه واضح..مسموع...
" انانى؟؟"
احقاً هذا هو الوصف الذى استخلصتيه من كل هذا؟؟
" ايوه انانى...الشخص اللى ياخد قرار لأتنين...اللى يقرر بالنيابة عن شريكه...يبقى انانى...."
" كان لازم ما تعرفيش....انا عارف لو كنت قولتلك كان هيبقى تصرفك ايه..حبيت اوفر على نفسى اشوف نظرة الشفقة فى عنيكى..محبتش احطك فى موقف صعب...عشان...عشان انا بحبك..."
يتهدج صوتى فى المقطع الاخير برغمى..تتأثر هى الاخرى لكن نظرة الغضب تعاودها من جديد
" برضه مفيش حاجة تخليك تاخد قرارات بالنيابة عنى...تعرض على الموضوع و انا ليا حرية الرفض او القبول..."
" كنتى هتوافقى...عشان بتحبينى كنتى هتوافقى..."
" و لما انت عارف انى بحبك...ليه عاوز تسيبنى؟؟"
انصرف من صوتها كل اثر لغضب فلم يعد فيه سوى الحزن و الحب العميق...
" اسيبك؟؟؟ و كأنه بمزاجى...بس ليه احكم عليكى تبقى زوجة لرجل ميت ؟؟ ليه اخليكى تعيشى حياة صعبه فيها خطر العدوى من اى حاجة و فى اى وقت؟؟ اللى بيحب انسان يحاول يسعده بأى طريقه حتى لو كان فى ده تعاسته هو..."
" انا راضية...."
تنطقها فى رجاء تمزق له قلبى..
" انتى بتقنعى نفسك انك راضيه...و بعدين لما نعيش مع بعض فعلا هتبتدى تشوفى حجم المشكلة زى ما انا شايفها..."
" انت ليه مصر تبقى لوحدك؟؟ ليه مصر تعزل نفسك عن الناس و تعيش نفسك فى مشكله ملهاش حل؟؟ ليه مصر تقنع نفسك انك مت و حياتك انتهت؟؟ ما الناس عندها المرض ده فى مصر بالملايين..و بيتعالجوا و بيتجوزوا و يخلفوا و يشتغلوا...ادى العلاج فرصة و ادى نفسك فرصه...الحياة ما انتهتش...و لو فاضل فيها يوم واحد عيشها مع اللى بتحبهم و بيحبوك..ما تعيشهوش لواحدك...انت كده اللى بتموت نفسك بأيدك...."
نظرت لها فى تخاذل و لم انطق
" الحياة هتكون صعبة شوية؟؟طب و ايه يعنى؟؟ مين اللى قال ان فى حاجة فى الدنيا سهلة؟؟ شوية احتياطات زياده فى العيادة و البيت؟؟طب و ايه المشكله؟؟ تمن بسيط قوى تدفعه عشان  تعيش مبسوط..انا موافقه على كل ده..دى حياتى و انا حرة فيها..المهم انت موافق؟؟ موافق انك تقدم التضحيات دى؟؟و لا خلاص هتسلم بكل حاجة و تبطل تعيش؟؟"
طبعاً موافق..تسألينى لو كنت اود ان اكمل ما بقى لى من عمر معك؟؟ ياله من سؤال جاوبته منذ زمن طويل بالايجاب....
" طب و اهلك؟؟"
فى تخاذل اكثر و اكثر
" انا انسانه ناضجة و اعرف آخد قراراتى لواحدى من غير وصايه من حد....اللى حصل هنا محدش هيعرفو غيرى و غيرك..الورقه دى مش هيشوفها حد تانى..."
و امسكت بورقة التحاليل اللعينة و مزقتها الى قطع صغيرة امام عينى....
" انا و انت هننسى كل ده...هنعتبر ان مفيش اى حاجة حصلت..انت هترجع لشغلك و حياتك طبيعى..موضوع السفر ده هنعتبره لاغ كأنه ماكنش...انا اصلا ماكنتش مستريحة للموضوع من الاول بس كنت مسيراك فيه عشان اريحك...احسن انه باظ..خلينا هنا فى بلدنا مع اهلنا..ايه يعنى قرشين زيادة ندفع تمنهم غربة و شحططة وسط ناس لا نعرفهم و لا يعرفونا؟؟؟
كل حاجة هتمشى زى ماكانت..و ميعاد الجواز لسه زى ما هو
..."
ثم تبتسم.. ابتسامة دلال من بين الدموع...واحة خضراء وسط صحراء اليوم الجافة
" و لا انت غيرت رأيك؟؟"
ابتسمت و لم ارد ياله من سؤال....
" انت ناسى حاجة معايا...."
و مدت يدها لى بالدبلة التى القيتها فى وجهها من ساعات...مرة اخرى ابتسمت و قد غلبنى التأثر..فمددت اليها يدى و تناولتها صامتاً...شعرت بها و هى توضع فى اصبعى بقطع ناقص من نفسى كان تائها ووجدته اخيراً..كل شىء عاد الى سابق عهده الجميل....

هل كنت انانياً عندما قبلت لها هذه الحياة بهذا الشكل؟؟؟ عندما تراجعت عن قرارى الاولى و لم اتشبث به؟؟ لا اعرف...ربما فعلا تمنيت من داخلى ان تفعل..ربما و انا اقصيها عنى بيد رغبت لو ادنيها باليد الاخرى...اشعر بالضعف و الوهن و اريدها الى جوارى...اريدها معى كى اواجه هذا العالم...و انا معها اصير اقوى...لا اريد ان يتملكنى الضعف كاللحظة التى سبقت مجيئها الى هنا...سنجد الحل معاً..انا متأكد من ذلك..هى ضحت لأجلى و انا سأقبل تضحيتها...سأقبلها و سأسهر ما تبقى لى من عمر كى ارد لها و لو جزءاً و لو يسيراً من هذا الجميل...قد احيا معها اياما قصيرة لكن - كما قالت هى - ما قيمة الحياة  مهما كانت طويلة عندما نحياها بعيدا عن من نحب؟؟؟ بم ستفيدنا السنين و الايام و الشهور و نحن نحصيها بمفردنا؟؟؟ ايه حياة هذه؟؟؟
نعم سأقبل تضحيتك..سأمضى ما تبقى لى من عمر معك..
و اعدك انه لو  كان  يوما واحد انى سأمضيه فى اسعادك...اعدك و لا اظن ان هذا يكفى ابداً.....

******************

المريض القلق ينظر حوله فى ارتياب و قد فشلت ابتسامتى المطمأنة ان تبث الراحة فى نفسه...
" الادوات متعقمة يا دكتور؟؟"
" ما تقلقش...متعقمة و مغسوله بمطهر كمان...."
" هَتّوجِع جامد طيب ؟؟"
" ما تقلقش بس و كل حاجة هتمشى كويس..هتاخد البنج و مش هتحس بأى حاجة ان شاء الله "
ما يزال متوتراً رغم كل ما قلت...لا تقلق..الامر ابسط من ذلك بكثير...هون على نفسك…تأملنى فى فضول و انا ارتدى قفاز اللاتكس المطاطى...
" انت ليه بتلبس جوانتيين فوق بعض ؟؟؟"
هنا ارتسمت على عينى الظاهرة من فوق القناع الطبى المحكم ابتسامة و صمتُ حيناً....
" ده عشان سلامتك يا راجل يا طيب....كل ده عشان سلامتك..."
" ما تقلقش...كل حاجة هتكون كويسة...استرخِ خالص و افتح بقك على الآخر....."
نعم..كل شىء سيكون بخير...كل شىء.......

( تمت )