الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

يوم فى التحرير….(2)

 

'

اخرج من العربة مدفوعاً على اقصى تقدير و ليس بارادتى..ربما لو لم تكن محطتى فكانت ستكون محل نزولى بفعل رغبه الجماهير الحاشدة النافذ صبرها للنزول الى ميدان الثورة...رغم ذلك المحطة لا تبدو مزدحمة بشىء من الخصوصية لهذا اليوم بالذات..توقعت لها ان تكون اكثر ازدحاماً..

عدلت من هندامى و سرت خلف الجموع التى اختارت اللحاق بالميدان بدلا من تغيير العربات الى خطى (شبرا) او (الجيزة)..اماكن الخروج من المحطة معقدة و متشابكة لم استطع يوماً حفظها رغم قدومى المتعدد الى هنا..لكنى كنت اعى النصيحة التى سمعتها كثيراً ممن سبقونى الى هنا

" ابتعد عن (محمد محمود)..."

و هو الشارع الذى ينتظر بآخره وزارة الداخلية و قلب كل تلك الاحداث التى اودت بالامر الى الاشتعال و استخدام القوة فى المقام الاول..وجدت نفسى فى النهاية بين مفترقين احداهما يؤدى الى ذلك الشارع الذى تحول بالنسبة الى الى تابو لفظى لا يجب تجاوزه فأخترت الآخر..لا ضير من الاستماع الى النصائح فى يوم كهذا..فلندع البطولات الى وقتها....

الممر يطول كأنه لا نهاية له لكن الضوء فى نهاية النفق يخبرنى انه الدرب الصحيح…انه (التحرير) اخيراً..انتهت بى رحلة الصعود اللاهثة من عالم الانفاق السفلية الى عالم البشر فى  قلب الميدان بالضبط..انتابتنى القشعريرة فور ان لمست اقدامى الميدان و قد اصطبغ بصبغه معنوية هائلة فلم يعد مجرد شارع مرصوف او ميدان حيوى……ربااااه…..هل للاماكن من ذاكرة؟؟ هل يحفظ الجماد كل ما مر به من تعايش مع البشر؟؟ الوجوه و العصور المختلفة التى وطأت هذه الارض..كل الطرابيش و العمم و الاحذية و القباقيب و العربات ذوات العجلات الضخمة تجرها الجياد…ربما من ايام كان كوبرى (قصر النيل) يسمى بـ (كوبرى الخديو اسماعيل)..قبل ان اولد انا و قبل ان يولد ابى و قبل ان يوجد كل هؤلاء ممن يصطنعون حولى الزحام و يتظاهرون بكلام متداخل يحمل ذات المعنى..

هل يذكر الدماء الطازجة التى سالت عليه من ايام؟؟ هل يذكر الدماء الطاهرة التى بعد لم تجف من بضعه اشهر؟؟ فى هذا الموضع بالذات قد يكون احد الشهداء كان ينازع الروح اثر رصاصة غادرة انطلقت عمدا من مسدس حكومى التمس فيه يوماً ان يحميه.....ربما خلف هذا القائم استتر احد المتظاهرين من بطش حجارة البلطجية و المسجونين ممن اطلقتهم الشرطة.…و هنا….هنا اعتقد انه وقف اول من صرخ فرحاً بتنحى الرئيس السابق او من مات كمداً اثر خطاباته السابقة...

ذكريات..ذكريات..تتجمع لتشكل شريطاً مرئياً يعرض امام عينى الآن فى عرض سينمائى ملون لا يراه سواى..اذكر زيارتى السابقة ايام الثورة الاولى..اذكر الصفوف المصطفة على الجانبين تدق كأنها تزف عروسين و الاصوات تتبع ايقاعها  "  اهلا اهلا بالثوار..." …اذكر ساعتها انى شعرت براحة غريبة اثر سماع ذلك النشيد المرتجل..و كأنى وجدت مكان راحتى أخيراً بعد طول ترحال..يالها من ايام....

تغالبت على ذكرياتى و بدأت الحياة تدب فى اقدامى حتى لا يجبرنى الزحام من جديد للحركة على هواه..فى الواقع ليس الزحام شديداً زحام الميليونيات التى تراها فى النشرات....هناك تلك الفرج الظاهرة بين المارة  تتيح الحركة الميسرة خلالها..ربما لأن اليوم سابق ليوم الجمعه حيث تشتد الاحداث فتأخذ مهلة قصيرة اليوم على طريقة " الهدوء الذى يسبق الاعصار "  او ان الاحداث قد هدأت فعلا و بدأ الناس فى الانصراف لم يكن لدى العلم المسبق ساعتها و لن ادعيه الآن..

لكن الجو كان قد بدأ يأخذ تلك الصبغه الاحتفالية التى اكتسبها ميدان التحرير فى اواخر ايام الثورة عندما احكم الجيش قبضته عليها بطواعية من الشعب للتأمين بحسن نواياه....الظاهر على وجوه الناس ليس ان هذا ميدان حرب او مكان لتبادل اطلاق النيران بل  هو مكان للتنزه و التصوير كأنها رحلة..لمحت هذا كثيراً و ان لم يكن التوجه العام..

لمحت كذلك من بعيد شارع (محمد محمود) و كانت قد اقيمت الحواجز عند مدخله تمنع الفضوليين من المزيد من الاقتراب..كم من العيون فقدت هناك؟؟ كم جثة لشهيد تم سحبها على الارض كى يتم القائها فى القمامة؟؟ الاجابة تثير غثيانى و ضيقى لكنها لا ترغبنى ان اقترب من هذا الشارع اكثر...

من شارة المرور الافقية الطويلة  تدلت دمية قماشية كبيرة لها طول و عرض انسان عادى..لابد و انها ترمز للمشير..رأيت مثيلتها لـ (مبارك) ايام يناير..الدمية تتدلى من حبل ملتف حول العنق فى وضع المشنوق على سبيل (الفتيش)..الرمز واضح للعيان جداً و يظهر رغبه صانعه و من يحتويه هذا الميدان من المؤيدين..رقاب هؤلاء هى ابسط ثمن يتم دفعه لقاء الدماء الزكية التى اسيلت و التجاوزات التى سكت عنها الشعب طويلاً..

مجموعه من الباعه الجائلين جعلوا من الارصفه محلات مرتجلة لبضاعتهم..و هذا دعم فى نظرى ساعتها ان الاحوال قد هدأت بالفعل..فلن يفكر احد فى الاتجار و رصاصات الامن تنهال من كل صوب…احدهم يقف فى منتصف الطريق ليبيع مجموعه من الاقنعه الطبية..اشتريت منه واحداً على الفور بدون تفكير....كيف نسيت ؟؟ يتحدثون عن قنابل الغازات هنا ليل نهار..يقولون انها لا لون لها و لا رائحة و تأثيرها فورى و لعين…اعتقد ان قليل من الحيطة لن تضير احداً  , رغم علمى التام ان التكوين الضعيف للقناع الطبى الهش لن يصمد امام الابخرة النفاذه للغاز وقت الحاجة اليه…..و مع ذلك لم استطع ان امنع نفسى من الاعجاب بنفسية المصرى الصميم التجارية الرابحة التى تحسن الاستفادة من الكوارث و تحويلها لصالحها بأى شكل...

ارتديت القناع لفترة وجيزة سرت فيها و تجولت بين الناس , ثم نزعته بعد فترة عندما شعرت بالسخف..جو كرنفالى عام و اناس يتصورون و فتيات تسير بحرية..عندما تشتد الاحوال ربما يكون من الواجب ساعتها ارتدائه ان فاد فى شىء..اما الآن فأشعر انى طفل صغير يتسلح بقنبله للقضاء على صرصور..ليست الامور بتلك الخطورة...

رحت اسأل كل من تمره عينى.." اين يتبرعون بالدم هنا؟؟"  الاجابة الواضحة المتكررة هى " عند مسجد (عمر مكرم)…."… الجامع الاشهر الذى عقدت منه جنازات لا حصر لها لمشاهير و قيادات هامة من النظام السابق قبل ان يتم اسقاطه….اذكر ان آخرها كانت جنازة زوجة (نظيف) السابقة..

و اليوم اصبح منبراً لخُطَّاب الثورة , و خطابات (حازم صلاح) الساخنة التى تنبعث منه خير دليل على ذلك..اذكر انه كان يقع متاخماً لمبنى (مجمع التحرير) المهيب حيث جرى تصوير فيلم (الارهاب و الكباب)..لكن الازدحام و التظاهر غيراً شكل و جغرافية المكان و جعلا تبين الاماكن مجهوداً شاقاً..

ارتأيت انه لا سبيل لأنقاذ نفسى من التيه وسط هذا الزحام سوى بالنأى عن الاطراف و الاتجاه صوب القلب..ان اتحول الى نقطة مصغرة تقترب من دائرة كبيرة هى الحديقة التى تتوسط الميدان و التى هى فى ذاتها نقطة اصغر تمثل مركز دائرة اكبر هى الميدان نفسه…

فقط على ان اشق تجمهرات المتظاهرين  بحذر و احاول ان لا اتعثر…..ارأيت؟؟ من هنا تبدو الامور اوضح بكثير..يمكنك بسهولة ان تتبين طريقك من هنا التماساً الى المعالم الرئيسية الهامة فى الميدان فقط لو تحليت ببعض التخيل و القدرة على اختلاق نظرة بانورامية كتلك المميزة لعين الطائر…

يمكنك ان تلمح فى كل مكان شباب (الالتراس) بسنهم الصغير المميز..و ميلهم الشديد نحو التنظيمية و بث الحماسة فيمن حولهم..كل واحد منهم يجمع حوله جماعه من الناس و يحركها بهتافات حماسية معينة..اعتقد انهم هم العمود الفقرى لهذه الثورة الثانية (او الاستطراد للثورة السابقة) بعد ان تخلت عنها احزاب كثيرة خوفاً منها على مصالحها فى الانتخابات القادمة...

يخالطهم كذلك مجموعه من الناشطين السياسين مماثلين لهم فى العمر و الحماس..فقط ينتمون الى تيارات سياسية ثورية غير مميعه اعلنت رفضها التام للظروف الحالية و عدم رضوخها اليها..

تحل ببعض الدقة اكثر و تجاوز ببصرك الجماعات و زد جوده الصورة قليلاً لتميز وجوه الافراد..هذا الشاب الصغير..ارتدى قفازات من اللاتكس و شرع فى جمع القمامة من على الارض..وجهه كذلك مغطى بقناع الاتربة الابيض الضخم..تتبعه فى دأب اينما حل فتاه توازيه سناً و تماثله فيما يرتديه من ادوات وقائية..تجرجر خلفها كيساً اسوداً عملاقاً تساعده ليلقى فيه كل ما يجده من فضلات الناس..

هما متحابان كذلك..لن يعلنها لك احد لكنها اشياء تحس و لا تقال..هذا التيار الروحى المحمل فى لغه الاعين المتبادلة بينهما خير لغه صامته تعبر عن ذلك..كل التفاهم يتم بالعين فى يسر و سهولة دون كلام سيضيع  حتماً وسط الصخب..من حين لآخر تهديه ابتسامه فيكمل بدفع اكبر..فتسير هى خلفه بسرعه اكبر..كان الانسجام و التناغم بينهما تاما..

هما شابان جامعيان..و بالتأكيد لم يصرف اهلهيما عليهما كل ذلك المال و الجهد ليجمعا القمامة لكنهما يفعلان ذلك عن طيب خاطر الآن و دون توكيل من احد..بالتأكيد ما بينهما جاد و ليس شرارة عابثه..فمن يسرق لا يأتى فى وضح النهار ليغتنم غنيمته..من يريد اللهو فلن يفعل و الرصاصات تتهدد حياته من كل جانب..ما بينهما صادق فكلاهما يستقوى بالآخر و يفعل ما يفعل عن اقتناع تام…

تجاوزهما ببصرك..اعلم ان هذا صعب..لكنهم سيذوبا فى الزحام قطعاً..ربما لتبادل بضع كلمات بمنأى عن اعينك المتلصصة..امنحهما بعض الخصوصية و حول بصرك فى اتجاه آخر..

ستلمح رجلاً عجوزاً شائباً يسير مجاوراً لحفيداته الشابات و يحوطهن بكلتا يديه كأنه بهذا يحميهن من كل خطر فى الدنيا..سترى الاب الشاب و هو يحمل ابنه الصغير على يده و قد تلون وجهه بالالوان الثلاثية لعلم الدولة التى تأوينا..و الصغير فرح بكل ما يرى من مظاهر احتفال غير عابىء و لا قد يخطر بباله اصلا ما قد يحدث فى اى لحظة تالية..

سترى ايضاً مجموعه من الفتيات الشابة الجميلة تحمن الميدان كما الازهار اليانعه..لسن هنا للتصنع و لا لاقتناص كلمات الاعجاب و لا اصطياد الفاظ الغزل..بل هن هنا لأنهن مثل سواهم جزء من هذه الارض…امهات و اباء و ارامل و اطفال و شيوخ و مسنين و كهول..

اين القتله و المندسين و الاجانب و الجواسيس و الماسونين و الشيوعين و الملحدين ؟؟

هؤلاء ليسوا "بلطجية" و ليسوا " قلة مندسة" كما  يحلو  للمجلس العسكرى ان يصفهم..هؤلاء هم الاكثرية الغالبة..هؤلاء هم المصريون كما عرفتهم طوال حياتى….

ها هو جامع (عمر مكرم) أخيراً بعد عناء..ملاصقاً بشده لمبنى (المجمع) المتقوس..اصغر مما توقعت بكثير..ربما لهذا لم يلفت انتباهى بشكل مميز من قبل..نعم هو موجود على مقربة منى حتى اشعر انى اكاد المسه من موقعى هذا فقط بقليل من الجهد.. هو يوجد فقط على الجانب الآخر من الحديقة الدائرية و ما على سوى ان اقطع دائرتها على شكل قطر يمر بالمركز حتى اكون هناك….

يوجد حبل متين عالٍ بعض الشىء يعمل كسياج مرتجل للحديقة هممت بأن ارفعه لأعبر الى الجانب الآخر من تحته , حيث بدأت ان المح سيارات الاسعاف بالفعل  , و التى يتم التبرع بالدم عندها هناك..لكن صوتاً ما قد استوقفنى…

" لا تعبر الحبل من فضلك..الا ترى ان هذه مستشفى؟؟"
طبيب شاب صغير السن لا يرتدى المعطف الابيض..لكنه يرتدى القفازين و القناع الطبى الابيض الواقى الذى يدارى معظم ملامح الوجه...

بالفعل تكوم على الارصفه مجموعه من الناس على اغطية صوفية كأفرشة مستشفى مرتجلة..لحسن الحظ كان معظمهم نيام يستريحون..لا توجد اصابات خطرة على ما ارى...

" عذراً...انا طبيب انا الآخر لكن للاسنان..ايوجد شىء استطيع تقديمه هنا؟؟"
لمحت الابتسامة فى عينه المطلة من خلف القناع الضخم
" كلا..لا توجد اصابات اليوم حمداً لله..."

ابتسمت و هممت ان انصرف لأدور من حول السور فى رحلة اطول مراعاة لحرمة هؤلاء المرضى..لكن الطبيب الشاب استوقفنى مجدداً

" من هنا يا (دكتور).."
قالها و هو يرفع لى الحبل المشدود مبتسماً لأمر من تحته..استجبت لمبادرته شاكراً..و التفت لأشكره فوجدته قد انصرف الى مرضاه...

لفته بسيطة جداً بين زملاء المهنة الواحدة لكن اثرها دائماً ما يكون اكبر منها و من الموقف...للاسف كانت هذه واحدة من اللحظات التى اشعر فيها بالندم كونى طبيباً للاسنان و ليس طبيباً لسائر اعضاء الجسم الاخرى..هذه اللحظات لابد و انها مرت على كل من يمتهن مهنتى عندما اكتشف ان معلوماته الطبية خارج مجال عمله الضيق فى التجويف الفمى تساوى صفراً..

ربما هذا ما رغب الطبيب الشاب المجامل ان يقوله و منعه الادب..معلوماتى عن الاسعافات الاولية كلها نظرية و قابليتها للتنفيذ على ارض الواقع ضئيلة..استخراج الرصاص و اجراء التنفس الصناعى كما يفعلون فى مسلسل (لوست) و تدليك عضله القلب..كل هذه معلومات كتابية بالنسبة لى و قدرة رجل الشارع على القيام بها قد تكون اقوى و اقدر...6 سنوات من الدراسة المضنية و الناتج لحظات اندم فيها على نعتى بصفه الطبيب..….ليس هذا موضوعنا على كل حال...

جعلت امر بين الاسرة محاذراً ان انتهك حرمة مريض نائم او ماشابه حتى لا اسىء استخدام الصلاحيات التى منحنى اياها زميل المهنة..و ما هى الا دقائق حتى وصلت الى سيارات الاسعاف المرابضه بجوار المسجد....

صفوف طويلة جداً انثنت على نفسها كأنها الثعبان الوهمى فى لعبه الجافا الشهيرة و ذكرتنى  فوراً بمنظر الطوابير فى المصالح الحكومية فترة استخراج اوراق النقابة..لكن هذه المرة المنظر مفرح و مبشر جداً على عكس سابقه..هؤلاء مثلى تماماً..رغبوا فى المساعدة و لم يجدوا ما يستطيعون بذله سوى دمائهم..آملين انها قد تكون ثمناً كافياً و تأييداً صامتاً لمساعدة من يحاربون لنيل حريتنا..

تناولت الورقة المطبوعه و خططت فيها بياناتى سريعاً..يحتاجون اليها قطعاً لأخبار صاحب التبرع عند حدوث مشكله يحملها فى دمه و هو غير عالم بفحواها…و هذا ما ثبطنى كثيراً عن التبرع بالدم قبل هذه الاحداث..ان كنت احمل فى دمائى وحشاً فليظل ساكناً هناك و لا حاجة بى لأوقظه ليثير مخاوفى من غد قد لا يجيىء..لكن هذا الخوف الآن يعد ترفاً لا تسمح به الظروف...

ككل شىء فى الميدان..يتم التبرع بالدم فى نظام عجيب..و الناس كذلك تتقبله فى صبر..لماذا اشعر فى هذه اللحظات ان ميدان (التحرير) هو مصر الحقيقية ؟؟ يدخله الانسان فيشعر بشعور جميل من استرداد الكرامة..لا يخالف القوانين..لا يلقى فضلاته تحته ليتحف بها غيره..الكل يشعر ان هذا مكانه الى حد ما..

عربة الاسعاف المجهزة اصبحت مكاناً لتلقى التبرعات من الاناث..معظمهن من سن صغيرة و محتشمات كذلك الى حد يثير الاعجاب..منهن المنتقبة و المحجبة و المستترة برداء فضفاض لا يظهر ما تحته..و لم يكن منظرهن و هن يكشفن عن اورده ساعدهن فى العلن من المناظر المحبب رؤيتها..اعتقد انه كان قراراً حكيماً...

بينما الرجال - وهم عماد هذه الطوابير الطويلة - يتم تلقى التبرعات منهم فى العراء على محفات السيارة فى مكان ما خلفها…

الكل اذعن للقرار فى استسلام..لا تجاوزات..لا مضايقات..لا تحرشات..لو استمر الحال على هذه البلد لمده اطول تحت قيادة حكيمة يختارها الشعب , فأتوقع لمصر مستقبلاً يفوق اقصى طموحات المتفائلين من  الناس...

الكل يملأ الاستمارة و يأخذ مكانه فى الطابور تحت الشمس اللاهبة توطئه لأن ينادى اسمه ثم يأخذ الكيس الفارغ و يقف فى طابور آخر ليملأه من سائل حياته..

لمحت بعض الوجوه المألوفة فاضطررت راغماً للخروج من الطابور ليحل محلى سواى فى عجلة لا ترحم المتقاعسين..لكنى بالفعل فعلت ذلك راضياً….غريبة هى الصدف التى تتم بهندسة ربانية فتكون ادق من الوف المواعيد المحددة…قصة (الخيميائى) لـ (باوبو كويلو ) هى قصة رائعه و لا اخجل من الاعتراف انى قرأتها نحو عشرة مرات دون كلل..اذكر منها  عبارة الملك العجوز للشاب الرحالة فى بداية القصة..

" لا تهمل العلامات..فقد يكون لها بالغ الاثر فى صناعه اسطورتك الشخصية.."..

و الاسطورة الشخصية هنا كما اختار المترجم التعبير عنها من البرتغالية هى كناية عن الحياة...." العلامات"….لم اعتد يوماً اهمالها و اعتقد ان هذه كانت احداها...

وجوه معتاده جدا..لكن ان اراها فى اروقة الكلية..اما بعد انتهائها فقد فقدت معظم فرصى ان اراها مجدداً..اما اليوم ان اعود فأراها مجدداً كان شىء يفوق كل توقعاتى…

حوارات باسمة و سؤال عن الاحوال يظهر ان الهدف واحد..كلنا اتينا هنا من اجل ذات العلة..بالفعل كان شعورى فى هذه اللحظات لا يوصف..سمنى غير متعلق بالواقع..لكنى شعرت انى فعلا اسير فى الطريق الصحيح..

لكن هذا الوجه...انا حقاً اعرفه..فقط يبدو اشعثاً على غير العادة..الغبار قد غطى جسده كله بطبقة سميكة سمكها بضع مليمترات..و النظرة من عين لم يعد يخيفها شىء لأنها لاقت فى بضعه ايام ما لاقاه الناس فى اعمار مديدة....انه صديق و زميل..لكن لشد ما تغير عن ما رأيته آخر مرة فى مكان غير المكان و حدث غير الحدث..

بعد التحيات و العناق كان لابد للكلام من ان يبدأ..صوته و روحه مثقلان بالهموم..و الكلام من فمه ثقيل محمل بمعانى اعظم من ان تقال..

" حسبتنى الوحيد الذى اتى غير حليق...لم ارك منذ مده طويلة...ما الذى تفعله هنا ؟؟ هل جئت ايضاً للتبرع بالدم..."
هذا التساؤل الاحمق منى قطعاً...
" كلا....انا مقيم هنا من بداية الاحداث...هل ترى هذه الخيمة ؟؟؟ "
قالها مشيراً باصبعه ذى الاظفر الطويل الى خيمة صغيرة مجاورة لتمثال احد العلماء..اتراه (عمر مكرم ) ذاته؟؟
" انها خيمة (6 ابريل)...انا اصلا عضو فى هذه الحركة...."
6 ابريل..و المطالبة بالاعتصام لمواجهه الفحش و الغلاء فى هذا اليوم بالذات..(اسماء محفوظ)..الاتهامات بالعمالة...كل هذه الاشياء تمر فى رأسى اثر عبارته البسيطة..لم اعرف يوماً انه صاحب توجه سياسى....

" و ما هو الحال هنا ؟؟"
سؤال احمق آخر....
" الضرب متوقف حالياً..لكنها مجرد هدنه فلا تدع الظواهر تخدعك...لقد رأيت كل شىء..قنابل..و غازات اعصاب و مسيلة للدموع..و رصاص مطاطى و حى...لكن كل هذا امكننى احتماله الا الغاز..انه لعين فعلا..الا ترى انى لا استطيع الكلام؟؟"
صوته مبحوح فعلا كأنه مصاب بزكام مزمن لم تفلح امامه المضادات الحيوية..او انه قد استنشق كمية من الاتربة لوثت ممره الهوائى بأكمله و اصابته بعطب...

" هل تعلم ؟؟ بالامس تم اطلاق الغازات من منافذ التهوية بمحطة المترو..الغاز طبعاً لا لون له و لا رائحة و لا يوجد اى سبيل لأستشعاره سوى اثره..هل لك ان تتخيل؟؟ مجموعه من المسالمين لا علاقة لهم بشىء يتم اطلاق الغاز عليهم فى حركة خسيسه كهذه؟؟؟ تنظر بعينك فتجد الناس يتساقطون من حولك للاسبب..تشعر فجأة بضيق فى التنفس و بخدر هائل فى الاعصاب و الاطراف… للحظات قد تحسب انك تموت....يالهم من اوغاد....."

ياله من شعور...ماذا سيكون شعور المرء ساعتها و هو يرى روحه تفارقه و من حوله للاسبب ؟؟ لا اظننى قادر على التخيل بحسابات دقيقة...طرق ملتوية جداً و اساليب قذره...و هو لم يقل (اوغاد) طبعاً..اتفق معه فى اللفظ المستخدم لكنك قد لا تتفق معى فى صلاحية نشره...

" الم تشعر بالخوف؟؟"
مسلسل الحماقة يتوالى....
هز رأسه نافياً فى بطء..
" انظر..عندما ترى الجثث تتساقط الى جوارك فلن تعبأ بشىء صدقنى..عندما تحادث احدهم و تمضى معه فتره تكونون فيها كالاخوة و أكثر  ثم تنظر الى جوارك فجأة فتجده لم يعد هناك..تجده و قد تحول الى جسد تنقصه الروح .. تجده و قد مات برصاصه اخطأتك ببضع مليمترات لتحيد الى رأسه هو.. لحظتها تنشغل عن الحزن عليه بفكرة انه كان من الممكن ان تكون انت بالذات من يقف بين يدى ربه فى تلك اللحظات...لكن ببساطة  اجلك لم يحن بعد..ساعتها فقط تشعر ان هذه الدنيا لا تساوى يوماً تحياه ذليلاً..لا تساوى يوماً تشعر فيه انك قد خذلت من بذل نفسه طواعية كى تحيا انت..صدقنى فعلا لا تساوى شىء..."

كلامه ليس كلام قصص بل كلام نابع من القلب..النظرة كما قلت نظرة من رأى اهوال عديدة و مات الخوف بداخله و تحول الى آله من التصميم مسعاها وحيد...

ادرت دفه الكلام بنعومه بعد ما لاحظت الضيق الذى بدأ يكتسى وجهه..اعطانى وسط الحديث عينه من الرصاص المطاطى الذى يتحاكى عنه الناس من ايام يناير..كره سوداء مطاطيه ناعمه الاطراف لكنها ثقيله مهيبه..مع السرعه العالية يمكن ان تحدث اضراراً بالغه ليس ابسطها فقأ الاعين..شعرت من جديد عندما لامستها بذاكرتها تنتقل الى لا وعيى فأعطيتها له بسرعه قبل ان تسوء المشاهد و يتناثر فيها الدماء...

سالته عن آخرين اعرفهم و يعرفهم هو بحكم الزماله الدراسية..هل اتوا ؟؟ هل يوجد احد منهم هنا الآن؟؟ …حدثنى عن كثيرين جداً..لكن اسماً معيناً استوقفنى بذاته...

" كيف اتى؟؟ اليس من الاخوان؟؟ حسبتهم فى حالة مقاطعه لما يجرى هنا الآن..."
" نعم هو منهم..لكنه اتى الى الميدان بشخصه و ليس بصفته منتمٍ للجماعه...هو و كثيرين غيره...."
الكلام يسترعى انتباهى..
" بالامس اتى (البلتاجى) و جعل يهتف (ايد واحدة)..يقصد الشعب و الجيش طبعاً..فتم طرده من الميدان..هذه مرحلة تفتضح فيها النوايا الاصليه..و سرائرهم الحقيقية قد طفت الى السطح..."

بالتأكيد يقصد (محمد البلتاجى) النائب و الناشط الاخوانى المعروف..قطعاً هذا رأيه..لكن الكيان الاخوانى كيان ضخم ليس بالهين و لا يتحرك وفقاً لهوى اعضاءه و انما بعد قرارات و مشاورات عديدة و اراء موحده تلزم الجميع من الصغير الى الاكبر..و يحق الى حزب ان يسعى الى مصالحه الشخصية..هذا قانون غير مكتوب..

" هل ستمكث هنا كثيراً؟؟"
" لن ارحل حتى يرحل المشير..لن يخرجونى من الميدان قبل ذلك الا لقبرى..."
اثار كلامه رعدتى لكن الصدق من كل حروفه كان يطل..ودعته متمنياً له الافضل من لسانى و صدقه قلبى..ربما اختلفنا فى ايدوليجيات او فكر لكنه بالفعل نجح فى ان يثير اعجابى و يضاعف احترامى له..

تمنيت لو اظل معه فترة اطول اسمع منه فيها المزيد لكن نفسه على ما تبدو مثقلة بهموم لا اود ان ازيدها..نظرت اليه فوجدته قد عاد الى الخيمة التى اشار اليها حتى غاب عن ناظرى تماماً..

ربما اكون قد عرفته يوماً ما لفترة او لزمن..لكنه ابداً لم يعد الشخص ذاته..و لا احسبنى ظللت كذلك ايضاً بعد ما سمعته منه…

********************

( يتبع…)