الاثنين، 27 فبراير 2012

زغاريد المأتم……..3

 

kung_fu_953837181

فكرت حيناً..ظلت تنظر اليه و هى تغمض عينيها فى تركيز كأنها تستدعى شيئاً ما..فكر: كم تبدو ساحرة برغم كل شىء مصطنع فيها..زينة وجهها البارقة تجعل لها شىء من الوجود المختلق..لكنها فاتنه حين تغمض و تهيم فى ملكوتها الخاص..


" انت..انت..طبيب او ديبلوماسى !! "
" ما اشد الفارق بين الاثنين.."
" لكنك احدهما.."
" بل هو تخمين موفق..انا كنت طبيباً بالفعل..و فكرت مراراً بدخول السلك الديبلوماسى..لكن الاهتمام مع الوقت فتر..."
مع اشياء اخرى كثيرة فى الواقع بدأها دون ان يتمها فى صحبة الفراغ..

سألت فى فضول و قد تركت دور العرافة لتعود الى دور المحققة
" و ماذا تفعل الآن ؟؟ "
ما اوجع اسألتها حيت تصيبه فى الصميم..و مع ذلك هو غير حانق على مجرى الحديث و قد استشعر اهتماماً فى الافق غاب عنه منذ زمن بعيد..بم يجيب غير الحقيقة؟؟ لا احد يقول الحقيقة على ايه حال...


مع استطالة التلاوة يبدأ الاعتياد..تناوب الارباع و الاحزاب حتى بدأ الناس فى الانصراف و قل عدد من حلوا محلهم..بلغت الذروة و لن يزدحم المكان لحظة اكثر من ما كان…

و ذهب به شطط التفكير ليتسائل: ترى من سيحضر يومك بعد مماتك و قد انصرف عنك اعزائك فى حياتك..ابوان فى القبر..و اصدقاء و معارف يتساقطون فى عنفوان كأوراق خريف مصفرة فى يوم عاصف...

ثم ارتاح ذهنه انه لن يكون هناك ليشهد الفراغ..فليسخر منه الاحياء ان شاءوا...

هو و صديقه خرقا خشوع القرءان مع الوقت و بدءا الكلام فى فواصله و سكتاته..حتى اتصل حديثهما بعد صمته النهائى للراحة

" حالياً انا متفرغ لادارة شئون العائلة..."
لم لا تقول عاطل..لم لا تسمى الاشياء لأسمائها ؟؟ الراقصة فنانه استعراضية , و الملهى كازينو , و القواد حارس خاص , و الطبيب المتعطل عن العمل متفرغ لأدارة شئون..شئون ماذا؟؟ شئون الهواء..املاك العائلة المذكورة لم تعود سوى منزل متعدد الطوابق يأويه و جيران يدفعون اقل اجرة للسكن..و قطعه من ارض تتناقص كل يوم جراء البيع المتساهل تحت الضغوط..طرز الحياة اللاهى يبتلع كل شىء و انصراف المريدين لم يكن من فراغ...

بادره (انور) من حيث لا يحتسب
" الا تفكر يوماً فى العودة للطب ؟؟ "
شعر بشىء يشبه الصعقة..هذه من المناطق التى لا يستحب العودة اليها كثيراً..كامنه هناك محوطة باقفال عدة لا يجوز تخطيها.. (قوت) عابثتها , و هو الآن يحاول معالجتها بطفاشة..و ما سينجم لن يروق لأحد...الممرضة اعترفت انه خطأها و مسؤليتها و انتهى الامر على تسريح غير مشرف , بغير سرد لوقائع كما يفعلون فى الجيش..لكن النفس مثل المشرط الذى اعتاد يوماً ان يمسكه..متى انثنى طرفه بعد اول استخدام لا يعود كسابقه ابداً..لقد انتهى منه اى امل مرجو..

" كلا..كلا..لقد نسيت كل شىء عنه.."
ابتسم
" لا ينسى الانسان ما امضى فى دراسته عمره.."
كيف و قد نسى وجه من رافقه طيلة كل هذا العمر..الناس خزائن من اسرار و اعاجيب..

اكمل (انور)
" الطب فى مصر احواله لا تسر..انا معك..و العمر لم يعد يسمح بالسفر و التجوال.."
قاطعه
" و لم يعد فى عمرى يسمح بالبدايات الجديدة..."
" هناك حيوات كاملة تبدأ فى مثل اعمارنا هذه.."
" مجرد استثناءات لا تلغى قواعد.."
" لكنها موجودة و هذا هو المهم.."

عافت نفسه الحديث و استشعر ضيقاً..فظل بصره مجمداً على النقوش الموشاه للسجاد عند قدمه و حذائها النفيس..و اذنه معلقه بحديث النساء الذى بات الى فهمه الآن اقرب..شعر (انور) بما سببه له من ضيق فقال و هو يضع يده على كتفه
" لم ارد مضايقتك..."
نظرة ساخرة فى العيون تفيد بأنه قد فات الاوان على ذلك من بعيد...

ظل (انور) على امتناعه عن الكلام فترة و كأنه يعتذر صامتاً على بدر..قال فى نفسه الحديث سينتهى و النسوة سيتوقفن و مصير كل الامور الى زوال كتلك الوحيدة فى قبرها مع الملائكة السائلين...

" ما بك ؟؟"
قالها (انور) فجأة..و فكر هو: ها هو يعود...

" ليس بى الا  عدم انتظام خفيف فى التنفس..غير هذا انا فى حال ممتاز.."
فلتكن سمجاً فلعله يشعر بالاهانة و يصمت للابد..لن تلقاه مجدداً..لن تفعل..

" من تخادع ؟؟ تبدو و كأنك شخص آخر..."
نغمة اليمة كريهه..الكل يصر على العاب التخمين هذه الليلة..الا يكفيه ما سمعه هناك بالفعل ؟؟

" و انت ازددت بضعه ارطال و اصبحت تعرق بغزارة...لكنى لم آتى على ذكر ذلك..."
استمر فى السماجة حتى تقهر كل اعدائك و تنام قرير العين مرتاح البال...لكن سحقاً للكوابيس...

" انت تغير الموضوع.."
" لا يوجد موضوع حتى اغيره..."
يلوح (انور) فى وجهه و صوته يأخذ صبغه انفعالية حتى شعر ان كل الانظار قد تتحول اليهما..حساسية مبالغ فيها ؟؟

" بالله عليك الا تنظر الى نفسك ؟؟ نظرة متجهمة ووجه حزين..و على ذكر الطب تحول وجهك الى جثة.."

كان يكره ما يسمع و يكره قائله..يشعر انه مخمور على النسيان العذب..بينما (انور) يصر على ايلاج اصبعه الغليظ الى حلقه ليرغمه على تقيؤ الذكريات على السجاد الموشى...

" ربما لأنه موضوع ثقيل على نفسى..و لذا تركته.."
" ليس للامر علاقة بالطب..انت تبدو و كأنك..كأنك تحمل هموم الناس اجمعين.."
الم تقل (قوت) انك تكبر الحضور بمائتى عام؟؟ الآن انت تحمل الهموم للناس كلها كذلك..فكم يصنع هذا منك ؟؟ كلهم يعرفون عنك اضعاف ما تعرفه الحكومة و دفاتر التدوين...

لوح (انور) بوجهه و صوته على ذات النبرة الخفيضة - المنفعله..و التجأ الى التلويح بذراعيه المكتنزين شأن من تعجزهم الكلمات..
" لشد ما تغيرت..ربما وجهك على حاله..لكن فى روحك شىء ما تغير..كان فى عينيك بريق ما..وهج..لكنه اختفى لأسباب لا يعلمها الا انت.."

قال فى جفاء
" الله وحده يعلم كل شىء.."
ثم تحول اليه بشىء من الحدة الخفيضة
" (انور)...انت تعود لتلقانى بعد غيبة طالت اكثر من عشرين عاماً لتلومنى على تغير طباعى ؟؟"

هدأ الصوت الانفعالى و عادت البسمة و الهدوء و اليد الشحيمة الرابته على فخذ ناحل بارز الاوردة و الاوتار..
" يا سيدى لا لوم و لا يحزنون..سمه قدرة على استشعار الارواح لا تضعف مع الوقت..انا عرفتك طيلة فترة شبابى و هذه ذكريات لا تمحى بسهولة..لا علم لى بما حل  بحياتك طيلة الفترة السابقة و كلامك الغامض لا يفصح عن الكثير..طبيعه مشاكلك..طرز حياتك..هذه خصوصياتك و ابقها لنفسك.."

رائع انه يعرف كل شىء..لكنه يواصل للاسف..
" لكن ما اعلمه ان الجراح الحقيقى لا يستطيع الابتعاد عن المحراب مهما حاول..ففى هذا موته...انت الآن ميت لا روح فيه..و البعث لن يكون الا بالعودة الى نقطة المنشأ..."

البعث..البعث..الم يفكر فيه هو من لحظات لا يدرى متى ؟؟ الموتى لا يبعثون من القبور الا بإذن خالقهم فى ساعه محدودة لنفير اصيل من بوق يمسكه ملاك كريم..هب فى هؤلاء الجالسين و قل لهم ان البعث حاصل الآن فماذا هم قائلون ؟؟ هل تعود الفقيدة و تنهى النسوة عن اللغط و تعانق ابنها الذى لم يتعرفه ؟؟ الموتى لا يعودون فى حياتنا هذه فلم يتحدث عن بعث لقديم مفقود..؟؟ طب و جراحة من جديد ؟؟ هل سيقدر على هذا؟؟ و قدماه الا يتحولان الى عجين ؟؟ و ارادته؟؟ و علمه الضائع هل يعود ؟؟ و ثقته المتواترة هل يتجمع لها الامر و تحكم بلاد نفسه الضائعه؟؟ فيم يتحدث هذا المخبول و نميمة النساء تبدو اليه احكم و تأويلات (قوت) تبدو اليه احب و اغوى..

" لن اضايقك اكثر من ذلك..الامر مثله مثل الزواج..مجرد عرض..و لك مطلق الحرية فى القبول او الرفض..فقط فكر و لا تتسرع فى اصدار الاحكام.."

لا يوجد ما هو اكثر من ذلك سوى القتل الصريح..نظر اليه و كأنه باصره بعين جديدة حديثة الانبات..فى نفسه شعور عجيب بالفضول للكائن فى اللحظة المقبلة كذلك الشعور الذى الم به عندما تبين منه احوال الزواج..هل ستفعلها و تعود ؟؟ و هل (انور) على علاقة خفية بـ (قوت) ؟؟ تبدو نصوصهما مرتبة بعناية و توافق.. الم تنتعته مراراً من مغبة اصدار الاحكام بتسرع ؟؟

" انا و الاصدقاء سنفتتح مركزاً طبياً فى وقت قريب جداً..مستشفى متكامل يضم جميع الخبرات..مشروع العمر ان شئت...هذا حلم صغير يلح من ايام الجامعه لو تذكر..كنت انت تقول لى ايامها ان هذا لن يكون و ان الحياة ستحمل كل منا فى طريقه..و هاهى الحياة تعود بنا فى نقطة التقاء فما رأيك ؟؟"

و من جديد يعتريه الفضول و يقول
" لا اعتقد انى سأكون ذا عون لك.. "
قال (انور) فى اصرار..
" بل اعتقد انك ستكون ذا فائدة جمة لنا..الكل سيرحب بعودتك و ستعطى الجميع دفعة بوجودك..لم يتحدث احد عن جراحات معقدة..اشياء بسيطة اوليه و كل شىء سيعود لك بالتدريج مع الوقت..هاك كارتى..خذ وقتك و لا تقل شيئاً الآن.."

تناول البطاقة الناعمة من يده..طبيب للغدد؟؟ كان قد نسى كل شىء عن تخصصه و لم يرد السؤال و كأنه يعلم و يحفظ كل شىء..كيف اذا هو سمين الى هذه الدرجة و هو العالم بتوازن كيمياء الجسم ؟؟ و كيف انت متردد منعزل و شيم الجراح التوحش و الاقتحام؟؟

الشيخ يعود..و الوحشة تتبدد..و الآيات تتضح..و المعانى ظاهرة..و السورة معروفة..حكاية الرسول الشاب..و الغواية و العذاب و التنكيل و السجن بضع سنين..و العودة ملكاً بعد تأويل حلم غاب دون تفسير..

وضع البطاقة فى جيبه..لتمس ملمساً حريراً ناعماً استقر فى جيب حلته و نسى عنه كل شىء..(قالت هيت لك)..هيت لك..الابواب غلقت و انا لك جاهزة مستعدة , فهل تهتك كل شىء لأجلى؟؟ هل تغضب الله و تخون زوجى و ترضى نيرانى المتقدة ؟؟ الله جعل النار برداً و سلاماً على (ابراهيم) افلا يعفو عنك و انت نبيه ؟؟ الا ترى كم انا جميلة و غنية ؟؟ و كم انا بحاجة اليك؟؟ و كم انت بحاجة الى ؟؟ الشباب حارق..و صوته فائر..و رغباته اوامر لا ترد..فأذعن..و لا تدعِ التمنع اكثر من ذلك..

قالت هيت لك....

الباخرة الضخمة تستقر الى مرفأ..و الحركة تهدأ..و الطعام يملأ الاطباق الفارغه.. و نفسه تعاف الطعام كأنه مسموم..طعام يصيب آكله بلعنه ما تحيله مسخاً محروم من راحة الموتى و ضجر الاحياء..عالق فى برزخ من العذاب الابدى بين الحياة و الموت..العريس الكهل يراقب مدعويه فى رضا شأن نظرته الى محظيته..اشتريتكم كما اشتريتها بمالى و انتم على هذا العقد الزور شاهدون..فهل من معترض؟؟ تلتقى عينك بعينه..فيبتسم و يمرك فى هدوء..مازال لا يذكرك..و مازلت انت تذكر نظرة التوسل فى عينيه و هو يرجوك ان تسدد عنه قرضاً تفحل و فاق الضمانات..المال يخلق السطوة لكنه لا يملك القلوب..زالت السطوة و تفرقت القوب فلم يبق سوى العطن فى الذكريات..و الحنين الى شىء ما كلحن ضائع..او وجه تلك الحبيبة المتمنع عن النور...

هى تأكل او لا تأكل..لا يمكن احتساب شىء عليها..بينما هو اكتفى بالنظر..مظهر النيل و الاضواء يأسره بشكل خاص..ربما لأنه شكل له المهرب الوحيد من هذه السهرة الخانقة..
" انت كذلك تشعر بالوحدة..."
آه..حسبنا انتهينا من هذه اللعبة المريرة التى لا تجلب سوى الآلام..و ما الجديد و قد جاءت اليه و هو وحيد يحاور اشباحه الخاصة ؟؟

" تشعر بوحشة..اغتراب..ضيق..و كأنك تفر من شىء ما يلاحقك..و مع ذلك انت لا ترغب بالامان عنه مع الناس..انت تتعذب فى كل دقيقة من اليوم الف مرة ! "

تبا لك..تذكرينى بعواء المرضى و نظره الذهول على وجه المساعد..و نظرة الانذهال على وجه مريض التخدير..و برنين المشرط الحاد على الارض المعقمة كأرض الاقصى..و صوت الخواء..و وصوت الافكار لو كان لها صوت..و صوت الوحدة..و وصوت الاشباح..و وصوت الصمت..و الصمت انواع..لكل منها لهجة و انت اتقنتيها و اخترقت كل الحجب..فتبا لك الف مرة...نعم يتعذب و العذاب يزيد كتفريغ الصديد من على روح محملة بالآثام..

" و ما ادراك انت بم اشعر و لا اشعر ؟؟.."
انفعال زائد عن الحد؟؟ لكنها دلالة لا بأس بها عن العودة الى الحياة..كبكاء صاخب لطفل يعوى بعد ان ربته على ظهره بعنف ليلفظ السائل الامنينونى..

رفعت فى وجهه كفاً مخملياً يرجوه الهدوء..مصدات ريح امتصت زوبعه غضب و اعصار خوف..و بسمة محت كل شىء..
" حنانيك..انها مجر لعبة اتذكر.."

و عاد له الهدوء كأنه السحر..او ان القابس قد نزع عن روحه فعاد الى الجمود..
" و ما ادرك انت عن الوحدة..؟؟ "

قالت فى شىء من المرارة و هى تنظر صوب النيل للمرة الاولى..
" لأنى مثلك احيا فيها برغمى.."

ليس برغمى كذا فكر..او كذا يفكر كل مدمن على نقيصة حتى يفكر فى تركها فيكتشف انه غائص حتى النخاع..و ما بدأ بأنفاس صار حياة..كم يكره التبغ و الفضوليين !

فجأة تذكر شىء ما كأنه ومضة بارقة..صفحة الجرائد التى طالعته بوجه الصدفة بأسم قادم من دنيا الموتى ليبعث فيه حياة التذكر..الاسم يطرق ذهنه و المكان و ارض الميعاد تخطر بباله..انه اليوم و الآن..و النداء الخفى يعلو و يرجوه ان يلبى..فهل يكون هذا ؟؟

قال لها
" اشعر بالاختناق..."
" من يشعر بالاختناق و سقفه السماء ؟؟ "
نظر الى الصفحة المضيئة فشعر انها كاذبه..هذه سماء اصطناعيه اشتراها الثرى بماله ليبهر الضيوف..بينما سماء الله تظلل قوماً آخرين بنفوس اصفى و قلوب اطهر و ادعاء اقل..
" لابد و انك خمنتى انى غريب الاطوار ضمن كل شىء..."
ابتسمت بلا معنى و مع نظرة من زجاج
" من اول نظرة.."

قال و هو يقوم من مجلسه الذى شارف الاتحاد عليه من فرط ما جلس
" و لن اخيب رجاحة تخمينك..سأنصرف الآن لمشوار هام.."
ابتسمت هذه المرة ابتسامة لعوب موحية
" الآن ؟؟ حسبت الحفل يبدأ لتوه.."
" نعم..لكنى افضل ان اكون فى مكان آخر.."
قامت من مجلسها على غير ما تقتضى القواعد..و مدت يداً مخملياً بكاملها هذه المرة مصافحة..كأنه عناق..
" فليكن..لقد كانت امسية مميزة و ارجو ان تتكرر..فقط لا تنس كلامى..جرب و تجنب الاحكام المسبقة..و تذكر.."
و نظرة خاصة
" فى عالم الوحدة..اثنان افضل من واحد..."
و كلامها لا يحتمل اكثر من معنى..

عالم النساء عنه ليس ببعيد قدر نأيه عن الناس..عرف و رأى الكثيرات..و لا ينكر انها اليوم حيرته..لكن رموزها مع الوقت تتضح..و الشفرة تُزال..و نظره الاغواء القططية المنومة فى عينيها لا تقاوم..

افلت من يدها فى نعومة و قد افلتت سراحه بعد مصافحة طالت..شعر فى يده بوجود حريرى ناعم فلم يتبين ما هو..هل خرج بقفازها من المصافحة ؟؟ هذا حرير و ليس قطيفة يقشعر لملمسها بدنه..وضع الكيان فى جيبه دون نظر , و انصرف تاركاً الجمع لا يلوى على شىء..

لم ينس ان يرمى الجميع بنظرة اخيرة فقد لا يعود هنا الى الابد...العريس يحتضن فتاته الصغيرة فى قوة تتحدى الحياة..و كأنها بنته سيعطيها لعريس شاب من الموجودين..الغوغاء يأكلون يمرحون فرحين بروح الاكتئاب التى انجلت فى انصرافه..و( قوت ) تودعه بنظرة اخيرة مليئة بالثقة انه يوماً سيعود فهل يفعل ؟؟

هل؟؟
هيت لك..
فماذا انت فاعل ؟؟؟

هذه كانت تأملاته الاخيره و هو يمس الكيان الحريرى..اخرجه من جيب حلته الرسمية التى شهدت الليلة , السرور و الاحزان..انه منديل وردى جميل..ذلك الذى كان قبالته على المائدة طيلة الليل..كتب عليه بخط منمنم دقيق , و بقلم غليظ كذلك المستخدم فى رسم الرموش , رقم هاتف...و التذييل الامضائى( قوت) متبوع برسوم لقلوب صغيرة هى باقى الاسم الذى لم تفصح عنه فى امضاء مميز لا ينسى...متى فعلت كل هذا بحرفية و قد كانت تواجهه طيلة السهرة ؟؟ ربما كانت هى تواجهه لكنه كان غارقاً فى النيل عديم الامواج...

و للمرة الكم هذه الليلة يبتسم دونما سبب بعد انقطاع دام ؟؟ كل هذا كان مدخراً لحينه..تذكر الآن اللحن العنيد و راح يدندن فى سره مع عبد الحليم...
" ميل و حدف منديله..كاتب على طرفه اجيله.."


فرغت القاعه او كادت و لم يتبق فيها الا قلة..كف الشيخ عن التلاوة و هدأت النساء عن النميمة و البكاء , و لم يعد له الا الصمت المشتهى..الجماعه المتبقية جلست فى تشكيل متقارب كأنه توزيع مدروس..هم يعرفون بعضهم على نحو ما..(انور) حين تحدث قال الاصدقاء ؟؟ فهل هؤلاء هم ؟؟ لم لا يذكرهم اذاً ؟؟ وجد (انور) يجذبه فى رفق ليفارق مجلسه و ينضم الى الحشد الضيئل..فجلس الى مقعد بعيد مازال بارداً من مفارقة البشر..لكنه لم يشعر بالوحشة..

ذاكرته تذوب الى العدمية و يعاد الادخال فيها ببيانات جديدة و قواعد سليمة..النور يغذى معاقل الاظلام فيها و تتفتح سجونها عن كل حبيس..يرى و يسمع و يشعر بحواس غير الحواس..انه يعرفهم..يشعر بهم..يحيا معهم و كأنه يخلق من جديد..لشد ما تغيروا..لشد ما تراجعت خطوط الشعر و سمنت الكروش و انتفخت الاوداج و ضمرت القامات و انحنت الهامات و ثبطت الهمم و خارت العزائم , لكن الروح ما تزال كما هى..موجودة فى الاعماق لكل باحث..الايام تغير..تغير للافضل و الاسوأ..و كل شىء قابل للاصلاح..كل شىء..

اللحن اكتمل الى اغنية..و وجه المحبوبة ناقص الاضاءه حوطته المصابيح..و بيت الشعر تحول الى قصيدة..و الكلمة المنقوصة اكتملت الى مقالة..و بدأ الشعور بملمس المشرط الناعم و رنين الاجراس بعد انتهاء التوقيت , و الضحك  الطويل فى المجالس , و رائحة الفورمالين , و الاختناق بالجلوترالهايد , و دق الارض بعصبية عند التوتر...الايمان بكل جميل , و الالحاد بكل كفر , و البراءة فى رائحة الورود و الازهار , و صفاء العسل فى سذاجة الافكار  , و الصحبة الصاخبة التى لا تعرف بينها اى مصلحة او تخوين..

كل شىء يعود..يعود اوضح مما كان..

يذكرهم..و يكاد يقوم ليحتضنهم واحداً واحداً و يذكرهم بنفسه و يسمع لهم عدد اوعية الجسم و اعصابة و ما تحمل و ما تنوء به , حتى يثبت  لهم  للعالم و قبلهم ذاته , انه لم يتغير..هو كما هو و موت نفسه لم يكن سوى عرض جانبى لداء الهم...

جاء صاحب العزاء.. الصديق الناقص..لشد ما تغير النظر اليه الآن..لشد ما اشتد الحزن عليه و على مصابه فى هذه السن..يوما ما فقدت انت اباك و اماك و الآن فقط تعرف طعم الحزن عليهم و الآن  ايضاً تعرف طعم فقدهم لدى صديق..

انتهى دور الصديق الملكوم فى اعانه الناس على الدخول و الخروج , و جاء دوره فى الاحتياج الى الرعاية..جلس الى جواره و هو ينظر اليه..فكر.. هل يتذكره الآن مثلما يتذكره هو ؟؟ تم الناقص بقدومه و اكتملت الرفقة و لم يعد بينها غريب...

افلت المنديل الحريرى من يده و قد ظل هناك طيلة الوقت , ليسقط على الارض بلا صوت و لا شعور منه..

وضع يده على ساق صديقه صاحب العزاء , يعزيه و يبثه الود فى تلامس كعناقهما السابق معدوم الروح..لكن هذه المرة بحرارة اكبر و حياة..

صاحب العزاء يألف الاحزان... يتحد معها و قد صار بين من يحب..يرفع رأسه الى السقف متطلعاً للاشىء..يعض على شفتيه فى لوعه قبل ان ينطلق فى بكاء طويل....

 

( تمت )