الأربعاء، 22 فبراير 2012

زغاريد المأتم…1

 

kung_fu_953837181

صف طويل لا نهاية له..وقف فى بدايته و نظر الى المالانهاية..سار لا علم له متى يجب ان يتوقف مرة أخرى , لكنه واصل مدفوعاً بحركة الجموع العالمة بمصيرها المحتوم...

فرح و مأتم فى يوم واحد ؟؟ ان هذا لأغرب ما تفتق عنه مزاجه العجيب من نوادر تكفيه لأيامه القادمة....


اكف متداخلة كأنها غابة من اشواك , يجتازها ببراعه مقدماً فروض الولاء بالمصافحة لكل كف ممدود , فيتراجع مفسحاً الطريق له ليكمل...و تذكر على الفور مشهد العروسين و هما سائرين فى الممشى الطويل , غارقين فى الظلمة المفتعلة يحفهما الحضور من الجانبين كنوع من تشريفة الاستقبال..ليت الظلام ظل سائداً فلم يظهر تنافر ملامحهما الواضح...

عالمين غريبين..عاش فى كل منهما ردحاً من حياته.. كل بوجه.. و حسب ان امتزاجهما مجاف لقوانين الطبيعه..و ها هما يحيان اليوم فى توائم...ولو على الاقل فى واحدة من غرف عقله المتشعبة المليئة بحكايات لا يصدقها خيال..

اختلطت اهازيج الفرح بتواشيح الحزن..و عذوبه الالحان بتلاوة القرءان..و تهانى المباركين  بتعازى المشيعين..و بكاء الثكالى بضحك العامة من الحضور...
زغروده صدحت الافاق و تنهيدة  قلب مجروح اوجعت الشعور...لم يعد يدرى ايهما يسمع و ايهما يرى...
سخرية القدر تفوح لتزكم الانوف..حياة تولد و اخرى تموت..و كون لا تتوقف ساعته حتى يجمع الخالق خلقه الى وقت معلوم..

الفقيدة لا يعرفها و لا يحسب انه رآها..و لو رآها ما تذكرها لأن هذا على الاحرى كان فى زمن  قديم..ام لصديق..كان فى عهد غير العهد لنفس غير النفس..

وقف امامه الآن...لشد ما تغير و ان ظل على شىء من حاله كفل له التعرف..الوجه كما هو و ان زارته التجاعيد بنعومة..العين كما هى و ان خفَّت بريقها الحزن..و الشعر كما هو ثائراً منتشراً فى ربوع الاتجاهات , لكن الشيب غزاه و احاله الى قطعه من الثلج...

توقف عنده و اوقف الصف من وراءه.. صافحه و بدد لحظة توتر عابر بأن استغرقه فجأة فى عناق طويل..استجاب له دون حياة...نظر فى عينيه فلم يلمح سوى حيرة عميقة و حزن دفين , و عدم معرفة لهوية المعانق الغريب..وجه آخر من ضمن الوجوه..سيذهب ليجىء بعده آخرون...و بعدها نخلو للاحزان..

العريس هو الآخر لم يتعرفه..الوغد...كم طعم على مائدته و كم تغنى بأسمه حين اتفقت المصالح و تجمعت المشارب و بُذل العطاء دون حساب...اما اليوم فلم يُدعَ الا بدعوة مطبوعه شأنه شأن الهوام..و لم يؤكد عليه بالهاتف كأيام زمان..لم يقل له احد : هذا الحفل مُقام على شرفك و لن يتم الا بمجيئك.. فاليوم جئت ام ابيت فاحتفالنا قائم و ما انت الا كماله لواجهه...ان اردت اكملتها و ان اردت اعتزلتنا الى ذلك التابوت الاختيارى الذى آثرت ان تحتجب فيه عن الدنيا و الوجود....

ذهب اليه ليصافحه فنظر له ذات النظرات الحيرى و ان خالطها عدم اهتمام...راح يردد لعروسه الشابه..نعم الصديق انت..نعم الصديق انت...انه لا يذكر اسمه..اسعفه فى فتور بالاسم المجيد...فضحك و قال طبعاً انها مزحة..مجرد مزحة..يا....يا..... لقد نسى من جديد..كيف سيتزوج اذا بتلك الذاكرة الخرفاء التى التهمتها الشيخوخة ؟؟ ام انه هو الذى صار موطناً اصيلاً للنسيان ؟؟؟

انتهى الصف الطويل و انتهت الايدى و كف اللسان عن رد التحيات و عبارات العزاء...دار ضيافة متواضعه و معزين قلة و مقعد فارغ يرتفع عن الارض ينتظر شيخاً يعظ الموجودين و يطرب قلوبهم بآيات الذكر...مقاعد فارغه سفلية كثيرة جداً...حار اين يجلس..

حضر جنازات لا حصر لها , لساسة و لصوص و قتله و رجال علم و رجال دين و رجال نفوذ و لا رجال و نساء سيئات سمعه و حسناتها..رأى الافتعال و الصدق و الزيف و بات بعيونه قادر على التفريق بينها و تحرى درجاتها..و لازال الاعجب فى محيط ذكرياته هو جنازة تلك الراقصة التى فاق فيها عدد البكائين من الرجال ما جاوز النساء...لا فارق بالعدد قدر ما هو بالشعور..فليكونون قله او مائة..المهم بم يشعرون و لم هم هنا؟؟ احضرهم الحزن ام الصورة التذكارية التى ستلتقط عقب التأبين؟؟ وويل لكل خائن تخلف عنها و اضاع الرسميات..وجوه و وجوه...بعضها يكتم ضحكاته خلف وجه مقطب و بعضها حزين يتأسى على حال الدنيا..و بعضها جامد بينما قلبه يمكن سماع صوت تقطيعه من هنا يصم الآذان...

فى الفرح كان الجو مختلفاً و ان كانت قلوب الناس على كل لون مألفة..بواطن عديدة و ظاهر واحد هو الضحك و السرور بالعريس الكهل الذى خطف زهرة حسناء فى عمر بناته...ظل يمر بينهم و لا احد منهم يقوم من مجلسه او يكلف خاطره ليمجد القادم من اختفاء طويل..ربما نظرة سخرية او اثنين..او واحد يتذكر فيرفع حاجبه من بعيد دلاله على ود لا يستطيع اظهار خير منه..بينما كان قديماً يعرض تنظيف الحذاء بلعاب اللسان...هرج و مرج و ضجيج..يرج ارجاء المركب النيلى الكبير حتى ليكاد الماء العذب ليبتلعه سخطاً على اقلاق منامه الطويل من ازمان الفراعين..يمر بين الموائد  كأنه سراب او صورة شبحية , لأنسان ذاق الفناء , و لم يتبق منه سوى طاقة متجمدة فى المكان , يُعَاد الآن بثها على مرأى و مسمع من الحضور..

كم اعتادت كل هذه التجمعات ان تقام فى مجالسه..اعتاد ان يكون حاضرها بشخصه او بسيرته...يجتمعون و يأولون و يقولون و لا حديث لهم سوى عن الطبيب الثرى و عزلته الاختيارية و ميول الرهبنة و النأى عن الكون و النساء..حتى ذهب اللغط بأحد الدهماء ان قال: الطبيب الكهل لوطى عتيد !...كل هذا كان على مرأى و مسمع و مرضى منه..يعرف كيف يرده و يضحك له او يوقفه متى لم يرق له..لكنهم ذباب شره للمال و الطعام على الموائد..متى خلت خلا من عيونهم الاهتمام و قفزوا سراعاً على موائد اخرى عامرة باللحم الميت الرخيص من سير الناس و مصالحهم..

شعر بالضيق و الاختناق انه قد ترك بيته لأجل اللحاق بحفل لا يعبأ فيه احد بتواجده او تلاشيه..و اختار لنفسه ركناً قصياً على مائده خالية تتيح له التمتع بجمال الطبيعه و قد اثار الدنس على متن الباخرة اشمئزازه......

و ها هو هنا الآن...
ساقته اقدامه الى مقعد قريب مناوىء لسرادق النساء المستتر خلف قماش من الصفار و الازرقاق..الحائط امامه ابيض او اصفر خالى من النقوش..و لا مواجه له يستحق الاهتمام سوى المقعد العالى المشابه للعروش و الذى سيعتليه الشيخ بعد قليل...من هؤلاء؟؟ غاب عن هذا المجلس دهوراً فهل منهم من يتذكره؟؟ هل هم هنا من الاساس؟؟ قطعاً هناك الاهل..لكن غالبهم بالخارج يمدون الايدى و يصطنعون العراقيل فى وجه القادمين..فلا يوجد هنا سوى المعارف  و الاصدقاء..

بعض الوجوه تبدو مألوفه اكثر من سواها..لكنه الزمن و الكبر...لو اراد ان يقارن بين ذاته التى تواجه العالم الآن و بين ذاته التى كان عليها من عشرين عاماً , لحسب الشخصين لا يجمعهما رابط..فلم يطالب الجميع بالثبات فى عالم سمته التغير اللحظى من بلايين السنين ؟؟ يرغب لو يشاهد واحداً فقط..يعرفه او يتعرفه هو..بارقة امل وسط العالم المظلم الفسيح العامر بتساؤلات لا حصر لها عن هية الوجود..

الطاولة من امامه صغيرة مستديرة وضع عليها زجاجة ماء..رأها فشعر تلقائياً بحلقه الجاف و الرغبة فى الارتواء..جاره من يساره لا يكف عن التدخين و قد نسى اللفافة المشتعلة فى يده حتى قاربت ان تحرق انامله , او يحرق رمادها القماش فى كل مكان..لا يطيق التبغ...لكنه صمت و كأن استعذاب الاحزان بات غيه مطلوبة لذاتها..

النسوة من خلف الستار لا يكففن عن الحديث و البكاء..فليبكى من يبكى و ليتكلم من يتكلم..فهناك متسع للجميع..و الشيخ الوقور يعتلى المقعد و يستعد لسحر العقول بعذوبه القرءان.....

اما هناك فقد ظل على مجلسه النائى يراقب العالم بنظرة من حياد و تحفز و ضيق...نادم على اللحظة التى دخل فيها الى عرس لا يستطيع مغادرته متى شاء...لا سبيل بالرحيل الا بالغرق..طابت الى نفسه رفقه البلطى عن رفقة هذه الوحوش المستورة خلف الحلل الرسمية  و فساتين السهرة..يراهم جميعاً عرايا و هذه لعنته الابدية..يعرف فضائحهم و مصادر ثرواتهم المخلوقة على الشبهات و سلوكهم المشين فى كافة مناحى الحياة..النيل احب و ارقى من صحبة هذه النماذج المحسوبة جوراً على البشر..هل يلوم والده الآن على هذه الحياة ؟؟ حقا فات اوان اللوم على اشياء عده...لا حقد على الاموات...

صوت ناعس ينبعث من مكان قريب

" هل تمانع لو اقطع عليك خلوتك ؟؟ "

كلا ليس ناعساً...بل افكاره هى النعساء..هو صوت انثوى فج بائن القوة و الثقة..هى لا تستأذن بل هى تطلب حقاً متاحاً و ستحصل عليه من بعد اذعانه غير المشروط..رأها ليتحول الصوت فى مخيلته الى وجه و كلام و سكنات و حركات..قطة..عيون مسحوبة و نظرة ناعسة منومة كهلوسات الصوت الاول..و الحركة الرشيقة و السيجارة الرفيعه ذات المبسم المدلاة من شفاة لامعه مصبوغه..و الثوب الساهر مفتوح الصدر لا يبالى ببرودة الجو , خالقاً الحرارة من جسد حامله..

هل يمانع ام لا ؟؟ فات الاوان..سؤاله لم يكن الا رسميه و انقضت , و المقعد سُحب , و القطة تربعت مواجهه له و انصبت عليه اشعه عيونها تبغى تنويمه بحلقاتها المتداخلة الآخذه فى الاتساع...
" اسمى (قوت)...ارمله و ابحث عن صحبة فى هذا المكان الكئيب..."

شىء ما فى نفسه اشتهى ان يكون ما مسه عند مصافحتها جلد يدها فيشعر بكنه الشخص المحادث له...لكن اطراف اناملها الرفيعه التى استقرت فى يده استترت خلف قفاز مخملى زكَّى نظريه القطة بشده...

ارملة..ارمله..السن متقدم..لكن العناية فائقه تسير خلف آثار الزمن باهتمام بالغ يضاهى الوسواس..عرف بناتا فى اعمار اصغر و هى تبدو عنهن اصبى و انضر..ترى ماذا يكمن خلف هذا البرافان؟؟

ارملة؟؟ هممممم..ارملة سوداء..تلك القادرة على قتل ذكرها بضربة واحدة من ذُنُبِ قاسى..فليحذر اى حركة غادرة...

" و انت ما اسمك ؟؟ "
احقاً لا تعرفه ؟؟ ابلغ به هذا الحد من الطى فى سجل النسيان ؟؟ لا لوم على الجلوس , طالما تحول بدر البدور الى نجم آفل مصيره الزوال...

" لم انت صامت ؟؟ اوجودى يضايقك ؟؟ "
بل وجوده ذاته هو من يضايقه..هى عنصر جديد يقتل الاملال..و مع ذلك كان تواجدها يربكه اكثر مما يريحه , و رغب له فى الانتهاء قبل ان يتورط اكثر..

اشاح بوجهه بعيداً كفتاه مهذبه يضايقها زنيم..

" الى هذا الحد..."
سخرية طافحة لكن الضيق لا يعتريها..

" أأنت معتاد دائماً على رفض الاشياء هكذا دون تجريب ؟؟ فكر : ماذا لديك لتخسر ؟؟ "
لا شىء كبير...

" اعط الحياة فرصة و جرب كل مشاهيها..فاليوم انت هنا..فمن يعلم عن الغد ؟؟ "
حقاً من يعلم ؟؟ حتى هذا الكهل العجوز الذى يكبره سناً و هو يداعب و يلاطف المعازيم و يضم اليه عروسه الصغيرة و لا يكف عن التواثب من هنا الى هناك , لا يعرف..فقد يسقط ميتاً الآن...

اقترب من المائده نادل..ارتفع صوت الموسيقى قليلاً و مع ذلك سمعها و هى تقول
" الن تطلب لى شيئاً ؟؟ "
عاقدة كفيها كمسند صغير تحت ذقنها و امام نحرها البض و ناظرة الى عينيه فى حياد و ابتسام..

نظر الى النادل و تكلم للمرة الاولى من لحظة جلوسها....

بينما فى داخله ظل يفكر..ليت هذه السهرة تنتهى الآن , و لا تطول أكثر…

( يتبع )